ملأت الشائعاتُ شوارعَ مدينة تل أبيب وضواحيها، وسيطرت على سكانها وزائريها، فأغلقت سلطات الاحتلال مدارسها، وعطلت العمل في الكثير من المرافق العامة والخاصة، والتزم السكان بيوتهم، وامتنعوا عن الخروج منها لقضاء حاجاتهم، وكأن مدينة تل أبيب، التي تتصف بالحركة والحيوية، وبالمجون والفجور، والرقص والسهر، والغناء والطرب، قد فرض عليها حظرٌ للتجوال، فأجبر أهلها على البقاء في بيوتهم، وعدم المغامرة بالخروج منها، وساعدهم في اتخاذ قرارهم بالاختباء والاحتماء كثرةُ الإشاعات التي يطلقها المواطنون ويتبادلونها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، التي يؤكد بعضهم فيها وجود منفذ العملية في المدينة، وأنه لم يغادرها بعد، وأن الأجهزة الأمنية لم تتمكن من إلقاء القبض عليه، وتذكر وسائل إعلامٍ إسرائيلية أن نسبة الشائعات في مدينة تل أبيب قد زادت بنسبة 5000%، التي تتحدث عن رؤية البعض لأشخاصٍ يشبهون منفذ العملية في أكثر من مكانٍ من أحياء مدينة تل أبيب الراقية.
وجاء اتصال الحكومة الإسرائيلية بالسلطة الفلسطينية دليلاً آخر على عجز سلطات الاحتلال وفشلها، وأنها تجد صعوبةً في تحديد خطواتها القادمة، إذ طلبت رسمياً من السلطة الفلسطينية المساعدة في إلقاء القبض على الفاعل، أو تزويدهم بما يتوفر لديهم من معلوماتٍ عنه تساعد في التعرف على مكان وجوده، أو تسهل القبض عليه أو قتله، ويبدو أن التنسيق بين أجهزة أمن الجانبين قائمة ونشطة، وهي تسير بوتيرةٍ سريعة، وكأنها تسابق منفذ العملية لتصل إليه قبل أن يواصل عمليته ويهاجم أهدافاً أخرى.
كما لم تتضح بعد دوافع عملية إطلاق النار في حانة تل أبيب، وما زالت العملية يكتنفها الكثير من الغموض، والمسؤولون الإسرائيليون، الأمنيون والعسكريون، يتخبطون بغير وعيٍ، وتتعارض تصريحاتهم من غير علمٍ، وإن كانوا قد نجحوا في تحديد هوية منفذ العملية، وقالوا بأنه نشأت ملحم، وأنه من بلدة عارة، إلا أنهم لم يحسموا أمرهم بعد، ولم يقطعوا بأنه هو منفذ العملية، وإن كانت كل الدلائل والظنون تشير إليه، فضلاً عن شهادة والده، وتعرف أهله عليه، إلا أن الظنون ما زالت تساور المسؤولين الإسرائيليين، وتحول دون حسمهم للقضية، التي يبدو أنها ستلحق بهم هزيمة وستعرضهم للنقد والسخرية والتهكم، حتى ولو نجحوا بعد حين في إلقاء القبض عليه أو قتله وحسم هويته.
تباينت الآراء حول دوافع العملية والجهة التي تقف خلفها، فبعض الإسرائيليين يحاول أن ينفي عنها الصفة القومية، ويصفها بأنها عملية جنائية، وأن خلفها أسباب ودوافع شخصية، لا تمت للصراع القومي العربي الإسرائيلي بصلة، بدليل قيام المنفذ بقتل سائق سيارة عربي كان متواجداً ساعة وقوع الحادث في مدينة تل أبيب، وإن كان البعض يقلل من هذه الحادثة، ويفسرها بالمصادفة المحضة، نظراً إلى حاجة المنفذ لسيارةٍ يهرب فيها بسرعة، ليتخفى ويتوارى عن الأنظار، فحكمت الصدفة أن يكون سائق السيارة عربياً، ولو كان يهودياً فإنه كان سيلقى المصير ذاته، وهو ما يضعف أصحاب جنائية العملية، الذين يعززون رأيهم بدليل أن منفذها كان قادراً على مواصلة إطلاق النار، وكان قادراً على تزويد بندقيته بأعيرة نارية وذخائر جديدة، ولكنه لم يقم بذلك، وآثر الفرار والانسحاب، في الوقت الذي لم يطلق عليه النار أحد من المتواجدين في المكان أو المارة، علماً أن هناك مصلحة كبيرة للأجهزة الأمنية في نفي الصفة القومية عنها، وتوصيفها جنائياً، لأنها تعفيهم من المسؤولية المباشرة، وتحيل الأمر إلى الشرطة، التي تعتبر الجرائم الجنائية اعتيادية وطبيعية.
وهناك فريقٌ آخر يسند العملية إلى داعش، التي نجحت في الأشهر الماضية في استقطاب عددٍ من أبناء الأرض المحتلة عام 48، وهم مجموعة من الشباب لحقوا بها وانتسبوا إليها، وعملوا في صفوفها، وغامروا حتى ينخرطوا في صفوفها، وبعضهم قاتل وقتل في معارك العراق وشمال سوريا، هذا إلى جانب الرسالة الصوتية لخليفة داعش أبي بكر البغدادي الذي هدد الكيان الصهيوني بأن عمليات داعش إليهم قادمة، ورغم أن منظري الأجهزة الأمنية الإسرائيلية يستبعدون هذا الاحتمال، ويرون أن داعش لم توجه سلاحها إليهم، إلا أن هذا الاحتمال يبقى عندهم قائماً، ويجدون أنفسهم مضطرين للتعامل معه على قاعدة الجدية في التهديد، ذلك أن منفذ العملية كان يحمل في حقيبته مصحفاً شريفاً، وكان يلبس ملابس سوداء كتلك التي يظهر بها عناصر تنظيم الدولة الإسلامية، فضلاً عن أن البندقية التي كان يحملها حديثة، وهي ليست كلاشينكوف أو أم 16، وقد تكون إيطالية الصنع.
لكن التيار الإسرائيلي الغالب يصف العملية بأنها نفذت على خلفية قومية، وأن منفذها وإن لم يكن منتمياً إلى فصيلٍ فلسطيني، ويعمل وفق تعليماته وتوجيهاته، فإنه يصنف فلسطينياً غاضباً، ساءه ما يحدث في المناطق الفلسطينية، وأغضبه ما يرى من حوادث القتل اليومية، فقرر أن يقوم بعملٍ يساند به شعبه، ويقف به معهم في انتفاضتهم المستمرة، وهذا الفريق يرى أن هذا هو الاحتمال الأقرب إلى المنطق والعقل، وغيره يبقى مجرد محاولات للهروب من المسؤولية، وتخفيف حدة النقد التي من الممكن أن تطالهم نتيجة فشلهم ونجاح منفذ العملية في التنفيذ والفرار ولو إلى حينٍ.
ذلك أن نجاح الشاب ملحم في تنفيذ عمليته في قلب تل أبيب، واستخدام بندقيةٍ آليةٍ رشاشة، وإطلاقه النار بغزارةٍ ولفترةٍ طويلةٍ نسبياً، وتمكنه من قتل اثنين وإصابة عشرة بجراحٍ بعضهم جراحه خطرة، ثم نجاحه في الفرار والتواري عن الأنظار في وضح النهار، وما زال لليوم الرابع على التوالي مختفياً لا يعرف مكانه أحد، ولا تستطيع المخابرات الإسرائيلية بكل إمكانياتها الوصول إليه وإلقاء القبض عليه وهو في مدينة تل أبيب، التي تخضع لسلطتهم، ولا يوجد فيها غيرهم، ولا ينازعهم السلطة عليها وفيها سواهم، ومع ذلك فقد كشفت العملية عن عجزهم، وأظهرت فشلهم ونقص قدراتهم وإمكانياتهم، وهم الذين يدعون التميز والتفوق، والقدرة والسرعة والحسم، علماً أن رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قد أصدر تعليماته إلى قيادة الجيش لتشترك في عملية البحث عن منفذ العملية وتحديد مكانه.
قد تتباين الآراء وتختلف، وقد تكثر التفاسير وتتعدد، ولكن الشئ الوحيد الذي لا يمكن إنكاره أو تجاهله، كما لا يمكن التقليل منه أو التخفيف من مظاهره، وهو أن شوارع مدينة تل أبيب، المدينة العامرة بسكانها، والساهرة باللاهين فيها، والغنية بمتاجرها والنشيطة بالحركة فيها، قد باتت خاوية من المارة، وخلت شوارعها من سكانها وزوارها، حتى بدت مسكناً للأشباح، ومدينة للخائفين من الموت والهاربين منه.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 6/1/2016
https://www.facebook.com/moustafa.elleddawi
[email protected]