قتل امرئٍ في غابةٍ جريمةٌ لا تغتفر، وقتل شعبٍ آمنٍ مسأَلةٌ فيها نظر، والحقُّ للقوَّةِ لا يعطاهُ إلا مَن ظفر، ذي حالة الدنيا فكن من شرّها عَلَى حذر. الأديب ديب اسحاق
من الثوابت الأساسية لدى امريكا في سياستها الخارجية هو مبدأ جلب المصالح لها، ودفع المفاسد عنها، ولعبة المصالح هنا لا تعرف صديق، والأمريكان لا يعترفون بميثاق المحبة والصداقة بل هم يعترفون بمقدار المنفعة المتبادلة أحادية الجانب إن اقتضت الضرورة، ومهما كان يبقى تعامل أمريكا مع باقي الدول مبني وفق سياسات مدروسة ومعدة مسبقا، وحتما هناك بدائل امريكية لتلك السياسات إذا تطلب الأمر ذلك.إن السياسة هي ليست فن الممكن كما يتصوره البعض، ولكن السياسة من وجهه النظر الأمريكية هي فن التمكن وسلب حقوق الاخرين وهذا هو التفسير الامريكي والصهيوني للسياسة، وأما اذا نحن اعتمدنا ان السياسة فن الممكن، فنموت ولن نتمكن من شيء، فأمريكا لم ولن تسمح بان يكون هناك شيء ممكن، وهنا لابد من القول ان لا يتوهم واهم من ان الرئيس الامريكي هو وحده من يرسم الخطط وينفذها بل إن السياسة الامريكية هي سياسة مؤسسات تقوم برسمها جهات عديدة مثل الكونغرس والسي آي إي والبنتاغون ومؤسسات امنية سرية وعلنية اخرى وما على الرئيس إلا التنفيذ، ولديهم لكل مرحلة خطط وبدائل تصب في نفس الهدف.وانطلاقا من هذا المبدأ السياسي الامريكي، تعددت وتنوعت سياساتها، فتارة استخدمت سياسة الكيل بمكيالين، وأخرى المد والجزر، أو مسك العصا من المنتصف، أو سياسة الإحتواء، ويرى بعض المراقبين إن هذه السياسات، تعبر عن ازدواجية أمريكا في المعايير، وكما قال الاديب ديب اسحاق ( قتل أمرءُ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب بكامله مسألة فيها نظر)، لكني أرى من أنها تدور في فلك المنفعة والمفسدة، وإلاّ سياستها مع دول الخليج وإسرائيل ثابته، لأن منفعتها باقية، حيث تتميز السياسة الأمريكية، بثبات الأهداف لأمد طويل، بمعنى أنها تأخذ بعدا استراتيجيا مع هامش محدد ومرسوم للتكتيك والمناورة، لكنه يقع ضمن إطار الأهداف ويخدم تحقيقها، فهي تلعب الأدوار بسيناريوهات مختلفة، حيث فتحت جبهة في سوريا وأخرى في العراق واليمن والسعودية، إضافة لليبيا المحترقة بذريعة الربيع العربي، ولكن المحور الرئيسي يتركز في الشرق الأوسط، وتعمل جاهدة وبكل إمكانياتها ونظرا لكون منطقة الشرق الأوسط، تحتوى على الجزء الأكبر من نفط العالم، فإنها تكتسب بعداً استراتيجياً وأهمية بالغة، في السياسات الخارجية للدول التي تعتمد على النفط المستورد وخاصة الأمريكية، كما أن هذه المنطقة محور صراع القوى الدولية، نحو السيطرة على الموارد النفطية، فضلا عن كونها تقع في قلب ممرات ومسارات التجارة الدولية.إن لأمريكا مصالح حيوية في منطقة الشرق الاوسط وخصوصاً في منطقة الخليج ولا اعتقد ان هناك امرئ لا يعرف بهذه المصالح والمطامع، والامريكان لا ينكرون ذلك ولذلك نرى السياسة الامريكية لا تحيد عن مصالحها بأي شكل من الاشكال وفي اي وقت من الاوقات مادام النفط موجوداً، ولكن الجديد ان بعض من دول المنطقة بدئت تفكر وبشكل جدي محاولة تأمين احتياجات بلدانها من الطاقة حال غياب النفط او نفاذه، فسعت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات بوضع برنامج إستراتيجي مستقبلي لأجيالها القادمة التي ستحتاج حتماً الى مصادر بديلة لهذا البترول الذي في طريقها الى النضوب.معهد التمويل الدولي أفاد من خلال تقرير له أن الولايات المتحدة اجتذبت ما يزيد على نصف رؤوس الاموال من دول الخليج المصدرة للنفط في السنوات الخميس الماضية وأن مشتريات الاصول المقومة بالدولار ربما تكون قد ارتفعت بعد هجمات الحادي عشر من أيلول، مقدرا اجمالي ايرادات صادرات دول مجلس التعاون الخليجي الست وهي البحرين والكويت وعمان وقطر والسعودية والامارات بما يزيد على 1.5 تريليون دولار، مضيفا أن نحو تريليون دولار منها ذهبت الى الواردات، والباقي وهو نحو 542 مليار دولار يمثل أموالا فائضة دخلت أسواق رأس المال العالمية وأسهمت في زيادة ما بحوزة دول المجلس من أصول أجنبية، مضيفا وبشكل عام نقدر أن حصة الولايات المتحدة من الاصول المقومة بالدولار في حافظة دول مجلس التعاون الخليجي استقرت خلال الاعوام الخمسة وربما تكون قد زادت، وتابع التقرير أن مشتريات المستثمرين الخليجيين للأصول المقومة بالدولار من خلال طرف ثالث بلغت مستويات مرتفعة، وهناك ما يدعو للاعتقاد بأنها قد تكون ارتفعت في الاعوام القليلة الماضية ردا على تطورات ما بعد 11 ايلول، مؤكدا أن الفوائض الخارجية المجمعة لدول الخليج بلغت نحو 200 مليار دولار، أي ما يعادل ربع العجز الامريكي، مقدرا اجمالي الاصول الاجنبية لدى دول الخليج بنحو 1.6 تريليون دولار بالمقارنة مع الاحتياطيات بالعملة الاجنبية في الصين البالغة 1.1 تريليون دولار، قائلا ان قسما كبيرا من فوائض دول الخليج يبلغ نحو 60 مليار دولار بقي في الشرق الاوسط اذ اجتذبته عمليات الخصخصة وتحرير اسواق المال والتكامل الاقليمي.منذ أن وضعت القواعد الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، لم يحدث تغير مهم في مآلاتها، إذ تتغير الحكومات من حزب إلي آخر ويتغير الرؤساء، وتتغير القيادات السياسية الأمريكية، وتتغير الظروف، ويتغير النظام الدولي، ولكن برغم كل هذه المتغيرات، تظل السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط ثابتة وراسخة، فلا المتغيرات الأمريكية الداخلية، ولا المتغيرات الشرق أوسطية، استطاعت أن تغير هذه الأهداف، وتدور ثوابت السياسية الأمريكية دائما، في مدار نظرية حقول المصالح، و تتلخص تلك النظرية في أنه حيثما لأمريكا مصلحة، فإن على القادة الأمريكان، حمايتها بمستوى أعلى من مقدارها، فيوفرون وسائل الحماية، ويضعون تلك الوسائل أمام المصالح بمسافة، حتى لا تتعرض المصالح لضربات مفاجئة قاضية، وعندما يُضطر القادة الأمريكان الى القتال لحماية مصلحة لهم أو تهمهم في مكان ما، فإنهم لا يقاتلون خلف الهدف، ولا فوقه بل أمامه بمسافة، توفر لهم إمكانية المناورة المحسوبة، وتلك هي عقيدتهم الإستراتيجية السياسية.والإستراتيجية الأمريكية الدائمة بها تفاصيل كثيرة لكن خطوطها العامة وهي اولا: أمن أمريكا ومواطنيها وحلفاؤها وشركاؤها، وثانيا: اقتصاد أمريكي قوي ينمو ويعتمد على التطور النوعي في مجال اقتصادي عولمي مفتوح، وثالثا: إرغام الحلفاء والخصوم على إحترام المصالح الأمريكية العامة في أمريكا ذاتها وحول العالم، ورابعا: استمرار بناء النظام العالمي القطبي وتطويره بقيادة أمريكا وبشراكة قوية مع أوروبا وإسرائيل وتركيا واليابان وكوريا الجنوبية لمواجهة التحديات.لقد ظلت السياسة الأمريكية إزاء منطقتنا وقضاياها صامدة أمام كل المتغيرات، وحتى المتغيرات السياسية داخل أمريكا نفسها لم يكن لها تأثيراً نوعياً بينا في سياساتها الخارجية، وإنما كان الذي يحصل أن تتغير الوسائل لا الأهداف من رئيس أمريكي إلي آخر، فالسياسة الأمريكية الخارجية هي سياسة ثابتةً، وأهدافُها واضِحةً ولم تتغير مع تغير حُكامها أو اختلاف أحزابِها مُعتمدين بذلك على التنظير السياسي المستقبلي للعالم، وعندما يَقدِمون على شيء يَبدَؤونَ بالتمهيد له عِبرَ تصريحاتٍ مُبَطَّنةً مُتكِئينَ على جهلِ من يُروج لِبضاعَتِهم السياسية أو من أتفقَ معهم على مَبدأ العَداءِ المُشترك أو بعض الجبناء الذين يَلوذون بِهم عند الشَدائد، ولا يُطيح أحدٌ بالقِناع الذي تَرتديه أمريكا، إلا العُقلاء والراسخون بالعلم.وهنا لا نبالغ لو قلنا أن أمريكا هي الشرطي الوحيد في العالم، والازدواجية وجه من وجوه أمريكا التي تدعي أنها راعية للديمقراطية والحرية في العالم بالإضافة إلى العديد من وجوه القباحة التي يندى لها جبين الإنسانية والحضارات لما فيها من متناقضات وسلبيات كارثية على الديمقراطية نفسها وعلى المفهوم الفلسفي للإنسانية وعلى إرادة الشعوب المغلوبة على أمرها من النظام العالمي الجديد وعلى تطلعاتهم وطموحاتهم في تحقيق الأهداف والغايات النبيلة والمشروعة بما ينسجم مع المصالح الوطنية العليا لتلك الشعوب، وهذه الوجوه قد تم صنعها من قبل القوى المتنفذة وأصحاب القرار التي هي متعددة ومتدرجة من حيث المسؤولية والقوة السياسية والاقتصادية، وتستخدم الوجوه وفق متطلبات وحاجات ومتغيرات الأوضاع السياسة الأمريكية والعالمية أو مستجدات الأحداث أو الضرورات العسكرية والاقتصادية وكل ما يهدد ويؤثر على المصالح العليا والأمن القومي لها وفق رؤيتها وتخطيطها.
آخر الكلام:
من يصدق أن أمريكا تريد الأمن والسلام والأمان في العالم، كالحالم يرى أنه يطير بأجنحة بن فرناس، فوق مثلث برمودا وهذا من المستحيلات.
بقلم/ رامي الغف*
*إعلامي وباحث سياسي