ماذا لو اكتشفنا أن المستوطنات خدمتنا استراتيجياً..!

بقلم: أكرم عطا الله

السياسة لا تعرف السكون وتلك هي ميزتها الوحيدة، الحركة الدائمة التي أحدثت تلك الانزياحات الهائلة في مراكز قوى التاريخ الهائلة، غربت امبراطوريات لم تكن تغيب عنها الشمس وأفلت أخرى امتلكت من القوة والعظمة للسيطرة على دول وشعوب ما جعل فاتحيها يعتقدون بأن الكرة الأرضية ستتوقف عن الدوران ولكن لأن السياسة والقوة والمعارك هي جزء من مجتمعات وكائنات حية تنمو وتتكاثر وتتنفس، وتكبر وتشيخ، تنتصر وتنهزم كان مسار التاريخ متعرجا ومدهشا أيضا.
اعتقد كثير من الامبراطوريات والأباطرة في ذروة المجد بأن كل ما صنعته القوة هو الحقيقة الوحيدة التي لن تتغير وسعوا بكل ما يملكون لتثبيت ذلك ومقاومة أي تغير لكن مسار الحياة كان يتحول من المكان نفسه الذي اعتقدوا بأنه ذروة القوة، هكذا حصل حتى مع هتلر الذي تمثل مقتله في فائض القوة الألمانية التي زادت عن حدود الرايخستاغ وأخذت تبحث عما هو خارج حدودها .. لتجد نفسها بنصف ألمانيا بعد نهاية المعارك.
صحيح أن الفلسطينيين في ذروة اليأس السياسي بعد وصول أقصى اليمين إلى الحكم وانغلاق حل الدولتين وما يزيد يأسهم ربما هو الوضع الداخلي وما تفجر من صراعات على السلطة وعلى الحكم وانقسام برنامجي وخلافات شخصية والصراع على الخلافة وسط غياب برنامج مقارعة إسرائيل ويزيد الأمر سوءا هو النجاح الدائم لقوى سياسية إسرائيلية لا تؤمن بالحل مع الفلسطينيين، والأسوأ أن هذا النجاح ليس مؤقتا بل تعبير عن انزياح للمجتمع الإسرائيلي نحو اليمين والتطرف، وهو انزياح مستمر بنفس السياق ولا أمل بالعودة فقد حسمت إسرائيل خياراتها نحو تعزيز السيطرة على الضفة الغربية وألا دولة فلسطينية في الجوار بل قضم المساحة التي يمكن أن تقام عليها بالاستيطان ونشر المستوطنات.
كل السياسة الإسرائيلية في السنوات الأخيرة وبالتحديد بعد وصول نتنياهو كممثل لليمين للحكم تمثلت في الحفاظ على الوضع الراهن ومقاومة أي تغيير في حكم إسرائيل للضفة الغربية وأن تبقى إسرائيل مسيطرة على المجال العام هناك والحيلولة دون حصول الفلسطينيين على الاستقلال بكل السبل.
من هنا كان الانتشار الاستيطاني بتسارع غريب أثار غضب كل العالم بما فيه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى الدرجة التي جردت إسرائيل كل أصدقائها من أية ورقة توت للدفاع عنها ومرة بالحديث عن سلام اقتصادي، كان الأكثر وضوحا في التعبير عنه موشيه يعالون وزير الدفاع الإسرائيلي حيث قال في كلية الأمن القومي في الولايات المتحدة الأميركية قبل شهرين، إن الفلسطينيين لا يستطيعون العيش في حال انفصالهم عن إسرائيل، ضاربا غزة كنموذج، معلنا استمرار الاحتلال والسيطرة.
منذ سنوات بدا تهرب إسرائيل من المفاوضات كجزء من سعي نتنياهو في الحفاظ على ما يسميه المراقبون الإسرائيليون "الستاتيكو" أي تثبيت الراهن والتعايش معه مستندا الى القوة العسكرية والقوة الاستيطانية إلى الدرجة التي بدا فيها المشروع الاستيطاني هو أزمة الأزمات بالنسبة للفلسطينيين والعالم.
انتهى حل الدولتين فهل تبقى المراهنة عليه كخيار في العلاقة مع إسرائيل هو خيار منطقي أم أن على الفلسطينيين البحث عن خيارات أخرى في إطار ما هو قائم؟
الحقيقة أن علينا النظر من زاوية مختلفة للصراع بعد كل هذه التطورات وهناك ما يمكن التفكير به استنادا لممكنات القوة الفلسطينية والإسرائيلية، لقد اختلف الفلسطينيون ولا زالوا على الحل ومنهم من لم يقبل بحل الدولتين بل وتنامى في السنوات الأخيرة أصحاب هذا الخيار وقدم لهم السلوك الإسرائيلي ما يعزز خيارهم هذا بالمشروع الاستيطاني الذي يمنع الفصل بين الشعبين ويعزز التداخل ويضمن إدامة الصراع ويستدعي البحث عن حلول جديدة لطبيعة الصراع ارتباطا بوقائع تفرض، فالسياسة لا تعرف الثبات، و"الستاتيكو" الذي يريده نتنياهو هو آخر الخيارات في هذا الصراع وتلك ليست مقولة عابرة بل هي حكمة قالها التاريخ بعد كل الصراعات الكبرى التي دارت على مسرحه.
لنتفق أولا على القرار الفلسطيني برفض التعايش مع الاحتلال، وهذا هو الإجماع الوحيد في التاريخ الفلسطيني الذي لا يقبل النقاش فما هي خيارات إسرائيل إذن وهي تنقل هذه الجموع البشرية من المستوطنين للأراضي الفلسطينية؟ تتمثل خياراتها في استمرار حكم الفلسطينيين بالقوة مع سياسة احتلال وتمييز عنصري، وهذا يضمن إدامة الاشتباك ليبدو الصراع يشبه صراع البيض في جنوب إفريقيا العنصرية، وذلك ما قاله الرئيس الأميركي أوباما للرئيس الإسرائيلي رؤبين ريفلين في آخر لقاء بينهما إن "الولايات المتحدة لن تستطيع الاستمرار في الدفاع عن إسرائيل في المحافل الدولية".
لكن الأكثر وضوحا كان تصريح وزير الخارجية الأميركي جون كيري بأن إسرائيل تسير نحو الدولة ثنائية القومية، هذا ليس تصريحا عابرا بل إن الوقائع التي يفرضها اليمين الذي يتصف بالغباء يجر إسرائيل نحو هذا الخيار أو أن "الستاتيكو" الذي يريده نتنياهو لا يسير متحركا إلا بهذا الاتجاه، وذلك هو المسار الوحيد الذي تشير إليه الوقائع في ظل تنامي الوعي الدولي وانكشاف صورة إسرائيل واتساع مساحة التفهم للرواية الفلسطينية، لقد أزالت إسرائيل ماء وجه أشد مؤيديها بمشروعها الاستيطاني لكن الأهم أنها أزالت وهم الفصل الذي سعى إليه مفكروها من أجل الحفاظ على الدولة اليهودية لذا فإن المشروع الاستيطاني هو التهديد الأكبر على الدولة اليهودية.
ذلك ربما ينقل الفلسطينيين دفعة واحدة إلى إعادة التفكير استراتيجيا وإعادة الصراع إلى بداياته الأولى بعد فشل الحلول الوسط .. من يذكر ما قاله الرئيس الأميركي في آخر زيارة لإسرائيل حين اجتمع بالطلاب الإسرائيليين في القدس وحذرهم قائلا، "أنتم من سيحافظ على المشروع الصهيوني بالدولة اليهودية من خلال الفصل بينكم وبين الفلسطينيين انظروا ما يحدث في الحدود الشرقية" ويقصد حالة التداخل التي فرضها الاستيطان.
اليمين الصهيوني الذي يقود في إسرائيل معززا بمرتدي القبعات الدينية إذا ما دققنا في التعيينات حتى الأمنية منها "موساد، شرطة، مستشار الأمن القومي، مخابرات" كلهم ذوو قبعات دينية، هذا اليمين يقدم خدمة للفلسطينيين من معارضي حل الدولتين وللفلسطينيين الذين يرون الأمور ببعدها الاستراتيجي في إنهاء الدولة اليهودية من خلال خيار أبعد سواء نحو الدولة الواحدة أو الدولة ثنائية القومية كما يقول جون كيري، وإذا سلمنا بأن الوقائع انحرفت عن حل الدولتين نحو هذا الحل فإن ذلك يتطلب العمل فلسطينيا ببرنامج ملائم للمستجدات التي فرضت أم للمسار الذي تذهب باتجاهه الوقائع.
ويقتضي ذلك فقط الحفاظ على الوجود الفلسطيني معززا بثقافة رفض الاحتلال ولا يتطلب عملا عسكريا أو صدامات مسلحة تبرر اتخاذ إسرائيل خطوات تجعل من الهجرة خيارا وحيدا كما يحدث في قطاع غزة .. بل برنامج كل هدفه تعزيز الصمود وتثبيت الفلسطيني على أرضه ليس أكثر.. برنامج يمكن الفلسطيني من حياة كريمة واقتصاد قادر على إيجاد فرص عمل وهو برنامج غير مكلف لكن نتائجه مهمة على المدى الاستراتيجي.
لقد ضمن المشروع الاستيطاني للفلسطينيين إدامة الاشتباك كيف لنا أن ننتصر في آخر المطاف .. هذا هو المطلوب تعزيز صمود الشعب .. مع استمرار إرسال وسائل سلام غير قائم أمام العالم، فقط التواجد والتوالد.

أكرم عطا الله
2016-01-31
[email protected]