الانتفاضة الثالثة انتفاضة الكرامة (39)
كأنه لا يكفي الشعب الفلسطيني ما يواجهه في ظل انتفاضته المباركة، من جيش الاحتلال الإسرائيلي وقادته وجنوده، ومخابراته وسجونه ومعتقلاته، وقطعان المستوطنين والمتطرفين، الذين لا يتوانون لحظةً عن قتل الفلسطينيين، ولا يتأخرون عن الاعتداء عليهم وتعمد قتلهم، فهم يتسابقون في القتل، ويتبارون في أشكال الاعتداء ووسائل القهر والإساءة، ويدعون أنهم يدافعون عن أنفسهم، ويردون الخطر عن مواطنيهم، ويصدون الشبان الذين يخططون لطعنهم أو دهسهم، ويبادرونهم بإطلاق النار عليهم ليحبطوا مخططاتهم، ويفشلوا محاولاتهم، وإلا فإن حوادث القتل ستكثر، وستتضاعف أعداد ضحاياهم.
التحق بعصابة القتلة وتنظيم الإرهاب المنظم جماعات اليهود المتدينين، وحاخاماتهم المتشددين، ورجال دينهم العنصريين، الذين انظموا جميعاً إلى عمليات القتل والإبادة، والإعدام والتصفية، وبدأوا في التحريض العلني والتشجيع السافر على قتل الفلسطينيين، لوأد انتفاضتهم، وقتل شبابهم، وكسر شوكتهم، وإضعاف إرادتهم، وردهم عن غايتهم التي انطلقوا من أجلها واستعدوا لها، وأبدوا إصراراً شديداً على المضي في سبيلها، ولو كلفهم ذلك حياتهم وأرواحهم، وحريتهم وبيوتهم وممتلكاتهم، وقد تسلح رجال دينهم بنصوصٍ وتعليماتٍ، وتوجيهاتٍ وإرشاداتٍ، مدعين أنها توصيات الرب وتعاليم التوراة.
وقد التحق بالحاخامات اليهود الذين يعيشون في فلسطين ويغتصبون أرضها، رجالُ دينٍ يهودٍ آخرون، يعيشون في الولايات المتحدة، ولكنهم لا يقلون عن رجال الدين المغتصبين تطرفاً وعنصرية، بل إنهم يزودون رجال الدين الإسرائيليين بنصوصٍ واجتهاداتٍ كثيرة، توراتية وتلمودية وأخرى من نسج خيالهم ووحي جنونهم، تحذر من خطورة ترك الفلسطينيين يخططون وينفذون، وتنبههم إلى ضرورة مواجهتهم قبل أن يتفاقم خطرهم، ويزداد عددهم، ويصبحوا هم الأكثرية في أرضٍ قد كتبها الله لليهود، وجعلها لهم أرضاً مقدسة، ولبنيهم من بعدهم أرضاً موعودة، فلا ينبغي أن يشاركهم فيها أحد، سكناً أو حكماً، وعبادةً أو ملكاً.
وقد أيدهم في دعواتهم العنصرية الرامية إلى قتل الفلسطينيين واستخدام العنف المفرط ضدهم، بعض التيارات المسيحية اليمينية، التي توالي اليهود، وتؤمن بروايتهم، وتنتظر معركتهم، وتقاتل من أجلهم، وتحشد اليهود وأبناء دينهم ليكونوا ضمن جنود معركة هرمجدون ، التي يعتقدون أنها لصالحهم، وأنها المعركة التي بشروا بها قديماً، ووعدوا في آخر الزمان بالنصر فيها، ويرون أن دولة اليهود يجب أن تسود، وهذا لا يكون بغير القوة والشدة، والإمعان في القتل والإثخان في العدو.
جيش الاحتلال الإسرائيلي يدرك قوة هذه التعاليم، ويلمس نتائجها العميقة ومفاعيلها الكبيرة، ويدرك أثر نصائح وتوجيهات رجال الدين، الذين يتدخلون بحماسٍ، ويدافعون بغيرةٍ وغضبٍ، ويؤصلون الصراع بعقيدةٍ وتاريخ، كما يعرف تأثير الحاخامات على الجنود والعاملين لأجل مستقبل وأمن وسلامة الكيان، لهذا فهو يصغي إليهم ويستمع إلى نصحهم، ويبرر بفتواهم جرائمه، ويعترف بأن النتائج المرجوة من تدخلهم كبيرة ومرضية، وتؤدي إلى وحدة الشعب والتفافه حول جيشه وحكومة كيانه، فضلاً عن أنهم يبعثون الحمية في صفوف الجنود، ويضفون على تضحياتهم قداسة، وعلى خدمتهم صفة العبادة.
لهذا ألزمت قيادة أركان جيش العدوان الإسرائيلي الجنود جميعاً بحضور مواعظ الحاخامات ورجال الدين اليهود، الذين ينتدبون لوعظ الجنود وتعليمهم أمور دينهم في ظل حالة العسكرتاريا التي يعيشونها، سواء في ظل الانتفاضة الفلسطينية التي حولت الأرض الفلسطينية كلها إلى ميدان حرب وساحة قتال، أو في معسكرات التدريب وثكنات الجيش المنتشرة في كل مكان، وأكدت قيادة أركان جيش العدو على وجوب حضور الضباط مع جنودهم، وعدم تغيب أيٍ منهم عن البرامج الدينية ومحاضرات الحاخامات المنتدبين.
يدعو رجال الدين اليهود الجنود في جيش كيانهم إلى قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وعدم التورع عن قتل المرضى والمصابين والمسنين، وألا يصدقوا أنهم مدنيين عزل، أو مواطنين أبرياء، فجميعهم في دينهم يستحقون القتل، وهم الأغيار وفق موروثاتهم الدينية، ولهذا فإنهم يحرضونهم على عدم رحمة أحدٍ، إذ لا أحد منهم يستحق الرحمة أو الرأفة، بل إن منهم من يعتقد بجرم من يعفو عن الفلسطينيين، كما يجيزون العقاب الجماعي للشعب، والقتل الشامل للجمهور، بحجة أنهم جميعاً أعداء، ومع الأعداء لا مكان للعدالة إلا في المساواة في القتل، وفي تعميم العقاب وشموله، وبشرى لأمٍ يهودية جاءها ولدها ودم مسلمٍ على سيفه، وهنيئاً لشابٍ عاد إلى بيته مزهواً بمن قتل، وعارٌ على جنديٍ أغمد سيفه رحمةً، ولم يجرده في وجه عدوه ضعفاً، ولم يروِ نصله ضعفاً بدماءٍ يعيش عليها عمره، ويتوق شعبه للمزيد منها.
وردت هذه التوجيهات الدينية وغيرها في المذكرات الإرشادية التي توزعها حاخمية جيش الاحتلال على جنودهم، بالإضافة إلى المحاضرات التي تشتمل على تعاليم دينية ونصائح مختلفة، تقوم كلها على قتل الفلسطينيين، وعدم الإحساس بالشبع من القتل، ولو بلغ عدد قتلى العدو مليوناً، ولعل القادة والضباط ومسؤولو الفرق والألوية والكتائب، هم أكثر من الجنود إيماناً والتزاماً بهذه التعليمات، ولهذا فإنهم يحرصون على الاستماع إلى توجيهات الحاخامات، بالقدر الذي يحرصون فيه على تنفيذ تعليماتهم، وإصدار الأوامر إلى من يلونهم من الجنود لاتباعهم وتنفيذ أوامرهم بالقتل.
مخطئٌ من يظن أن اليهود يحفظون عهداً، أو يحملون وداً، أو يحبون خيراً، أو أنهم يسعون لصالح الإنسانية ويراعون حقوق البشر، وأنهم يدعون إلى الأمن والسلام، فهم يعادون الخير ويتحالفون مع الشر، ولو كانوا رجال دينٍ يدعون أنهم يحملون رسالةً سماويةً، جاءت بتعاليم لرفعة الإنسان، والحفاظ على حياته وممتلكاته، وصون وجوده ورعاية حقوقه، بل هم قتلةٌ بطباعهم، ومجرمون في تاريخهم، وعنصريون في تعاملهم، قتلوا الأنبياء، وذبحوا الأطفال، وادعوا أن البشر خلقوا ليكونوا لهم عبيداً يخدمونهم، أو حميراً يركبونهم.
بقلم/ د. مصطفى يوسف اللداوي