ما أعظم المرأة الفلسطينية حين تكون قامتها بحجم السنديان شموخاً ، وحين تكون إرادتها أصلب من الفولاذ قوة، كما يصفها صديقي "أبو ثائر التعمري". تلك المرأة الغير عادية التي قدمت نفسها بصور متعددة، فهي الأم التي أنجبت وأجادت التربية وحثت أبنائها على التعلم والعمل والإنتاج، وأرضعتهم حليب الثورة ودفعتهم للنضال والاستشهاد. وهي المثقفة والناشطة والمُنظمة التي وظفت قدراتها في تعبئة الأجيال وقيادة الخلايا التنظيمية والجماهيرية والعسكرية ، وهي المحرضة والداعية والقائدة، وهي المقاتلة جنبا إلى جنب مع الرجال من أجل الحرية والاستقلال. وهي التي سطرت تجارب أكثر من رائعة وسجلت مواقف عجز عنها الرجال ، وقدمت نماذج نادرة في سياق تاريخي مشرق وعريق. فهي المرأة الفلسطينية التي استحقت احترامنا واعتزازنا، و تستحق وبجدارة أن تشكل مفخرة للأمتين العربية والإسلامية.
والحاجة " لطيفة ناجي" وكنيتها " أم يوسف" واحدة من النساء الفلسطينيات اللواتي شكلّت حياتهن تجارب رائعة، وسجلن في غمارها مواقف لافتة، وقدمن صوراً نادرة في الصمود والتحدي والصبر و التحمل ، فاستحقت أن تُلقب بـ "خنساء فلسطين" .
"خنساء فلسطين" هي أمي وأنا لست من رحمها، بل هي أمنا جميعاً ونحن أبناؤها، تذكرنا بأمهاتنا ومعانياتهن مع سنوات أسر الأزواج والأبناء والأحفاد، وتضطرني قسراً لاستحضار أمي التي أنجبتني من رحمها وحكايتها مع السجون على مدار ربع قرن من الزمن.
إنها الحاجة "أم يوسف" والمعروفة بأم ناصر أبو حميد " من سكان مخيم الأمعري بمدينة رام الله، وهي أم لشهيد اسمه " عبد المنعم " اغتالته قوات خاصة إسرائيلية عام 1994، وأم لأربعة أسرى حاليين يقضون أحكاماً بالسجن المؤبد لمرة أو لمرات عدة ، وهم ( ناصر المحكوم سبعة مؤبدات وخمسين سنة وهو الآن ممثل الأسرى في سجن عسقلان ، ونصر محكوم بالسجن المؤبد 5 مرات، وشريف محكوم بالسجن المؤبد 4 مرات، ومحمد محكوم بالسجن المؤبد مرتين وثلاثين عاما) .
وعائلة أبو حميد من العائلات الفلسطينية المناضلة ، والمتميزة بعطائها الذي لا ينضب ، ونضالها الذي لم ولن يتوقف رغم ما مورس بحقها وبحق أبنائها من قمع وتنكيل وملاحقة وتعذيب على أيدي المحتلين ، وبالرغم هدم بيتها من قبل قوات الاحتلال مرتين في العام 1994 ، وفي العام 2002 .
" أم يوسف" أو أم ناصر أبو حميد، كلاهما سيان وكلاهما كنز ومفخرة، هي أسطورة فلسطينية تتشابك بتجربتها مع التجربة الجماعية لآلاف الأمهات الفلسطينيات اللواتي ذقن مرارة الاحتلال والاعتقال، وهي واحدة من الأمهات اللواتي قضين عقود من أعمارهن وهن يتنقلن من سجن إلى آخر ومن بوابة إلى أخرى ومن شبك إلى شبك ، وعندما تعود لبيتها تقرأ الفاتحة على من ارتقى شهيداً من أبنائها.
ورغم تقدم سنها وتجاوزها الستين عاماً من عمرها، وحكايتها التي لم تنته مع الأسر منذ ثلاثين عاما وما يزيد ، لم تنكسر ، وهي التي امتلكت الإرادة والعزيمة والقوة المعنوية لن تنكسر وستبقى عصية على الانكسار أو الانهيار ، وهي ذاك الظهر الذي لا ينحني ، وذاك الشموخ الذي لا ينتهي.
" أم يوسف " لا تعترف أن البيوت تموت إذا غاب أو هُجِّر ساكنيها، أو أن تُدفن الأحلام ان اعتقل أصحابها ، فهي لا تزال الأم الصابرة ، الصامدة ، المتسلحة بالأمل الممزوج بقوة الإرادة بأن حلمها وحلم أبنائها وعائلتها وشعبها لا بد وأن يتحقق .
سمعت عنها وقرأت الكثير عن حكايتها وحكاية أبنائها مع الأسر ، لكنها المرة الأولى التي ألتقي بها، واقتربت منها كثيراً خلال الأيام الثمانية الجميلة التي قضيناها سويا في لبنان .
استمعت إليها وهي تتحدث بهدوء، وراقبت سلوكها وتعاملها مع الآخرين، وأنصت جيداً لإجاباتها على أسئلة الإعلاميين، لتعزز بسلوكها وتواضعها اللافت وإجاباتها المتزنة مكانتها في قلوبنا وعقولنا.
تحدثت بشموخ عن أبنائها، وبعزة عن شعبها وبتواضع عن تضحياتها، قليلة الحديث عن معاناتها الخاصة وحكايتها مع الأسر وكأن شيئا عاديا قد حصل معها طوال ثلاثين عاما مضت ، وإنما سعت دائما للربط ما بين حكايتها الخاصة والتجربة الجماعية لأمهات الأسرى ومعاناة الكل الفلسطيني .
وإذا أصر هذا الإعلامي أو ذاك الصحفي على أن يتلقى منها إجابة على سؤال يتعلق بحكايتها ومعاناتها مع الأسر، فإنها تجيبه بتحدي وعنفوان، وباقتضاب شديد وبكلمات واضحة ودون استجداء أو ذرف للدموع ، فتؤثر فينا وتبكينا و(لا ) تبكي !. وحينما سألها الإعلامي المتألق "سامي كليب" في لقاء معها على الهواء مباشرة على فضائية الميادين، فيما لو خيرت ما بين حرية أبناؤك وحرية الأسرى المرضى فماذا تختارين ؟
أجابت ودون تردد الأسرى المرضى لهم الأولوية وهم أحق بالحرية، من أبنائي الأربعة. فرد عليها بقوله "لو لم نكن على الهواء مباشرة لقمت وقبلت يداك" ، وبعد انتهاء الحلقة أصر على تقبيل يداها وطلب من زملائه التقاط صورة له وهو يقبل يداها الطاهرة ، في صورة تعكس احترامه وتقديره العالي لها ولأمهات الأسرى .
ما أروع تلك المرأة وما أعظم شأنها، التي تحمل في صدرها قلب رقيق المشاعر، حنون وعطوف على من يحب ، جبار في تحمل الشدائد والمصائب ، حقود على من يمس شعبنا بسوء ومن يصادر حرية أبنائه، ومن يزج أبطاله في سجونه ومقابر الموت .
أم يوسف أو أم ناصر أبو حميد .. مدرسة في الصبر ، بدأت حكايتها مع الأسر منذ ثلاثة عقود ولم تنته بعد ..!!
حقا هي أمي وأنا لست من رحمها وأفخر بلقائها ومعرفتها ، وهي تستحق أن يُطلق عليها "خنساء فلسطين" ، فكم أنت عظيمة أيتها الأم الفاضلة ..
نسأل الله العظيم أن يجمع شملها بعائلتها وبأبنائها الأربعة تحت أشعة شمس الحرية
بقلم / عبد الناصر عوني فروانة
رئيس وحدة الدراسات والتوثيق في هيئة شؤون الأسرى