سكتت كل المدافع في الشام.. انتهت الحرب كما قرر الكبار، والتزمت كل الأدوات الصغيرة من دول ومنظمات رسمت لنفسها مشاريع وطموحات، وصدّقت للحظة أنها سيدة قرار ولم يكن دورها أكثر من دفع فاتورة دول بالمال وقوى بالدم...
انتهت الحرب على ركام وطن كان لا بد وأن يسدل عنه الستار كدولة عربية تعالت على القوميات والإثنيات والمذاهب. دولة ظلت قائمة في الحسابات الإسرائيلية وحاضرة في أمنها القومي..
انتهت الهزة فأفقنا على واقع أكثر قسوة من سنوات كان الحريق في ذروته قبل أن يحرق الدول ويترك هذا الكم الهائل من الحطام والكراهية.
تحطمت سورية واحترقت واحترق معها محور الممانعة واحترق محور الاعتدال واحترقت السعودية واحترقت إيران واحترقت تركيا واحترقت قطر واحترق حزب الله واحترقت حماس واحترقت التنظيمات التي اتخذت من الدين غطاء لشهوة السلطة واحترقت الجامعة العربية.
احترق كل شيء والأهم من كل هؤلاء التعايش المذهبي الذي كان نموذج الدولة الحديثة فعدنا إلى نموذج القرون الوسطى نموذج القبيلة والعشيرة، إلى ما قبل الدولة.
لن يتحدث أحد عن الوحدة العربية فتلك أصبحت أشبه بنكتة وسط أمة أكلت نفسها.
الحديث عن وحدة الدولة الواحدة نفسها أصبح شيئاً من الخيال، فقد كشفت السنوات الخمس الماضية حقيقتنا العارية. كشفت أننا أكثر فشلاً من صناعة مؤسسة وأن شهوة السلطة لدينا هي الإرادة الوحيدة التي تحركنا وأن ما بنيناه سابقاً لم يكن دولاً بقدر ما كان مجموعة نظم أشبه بنظام الأسر في أوروبا في العصور الوسطى.
دعونا نتأمل ونسأل إن كانت تجربة وحدة أو ائتلاف واحدة في الوطن العربي؟
لقد سيطرت بعد ثورات الاستقلال مجموعة من الأحزاب التي شكلت عنصر الثورة الرئيس قبل الاستقلال، ومنذ أن تسلمت السلطة قامت على القمع والديكتاتورية وإقصاء الخصوم، فطردتهم وأبعدت الكثير منهم، وشكلت حكومات كما يفعل الغرب ولكنها كانت حكومات الحزب الواحد واللون الواحد، أنشأت أجهزة قضاء وقانون لكن لم يكن لها علاقة بالقانون، ولاحقت المعارضين، فسجنتهم وطردتهم واضطر البعض للهرب بجلده خوفاً ومات على أرصفة الغرب متسولاً حزيناً، ولاحقت المفكرين والمثقفين وكل شيء، وأنشأت أجهزة بوليسية تعد على الناس أنفاسهم، إنها أجهزة للحزب الحاكم وللرجل الحاكم.
كيف لم ننتبه ونحن مأخوذون بسحر الجماهير التي كانت تهتف في الميادين أن علينا أن نخاف على تلك الشعوب من نفسها ومن ثقافتها المتوارثة ومن تجربتنا الطويلة؟
كيف لم ننظر خلفنا ولو للحظة نتأمل تاريخنا القديم والحديث لنسأل إن كانت ثقافتنا تؤهلنا لبناء نظام ديمقراطي أم سنغرق في الجحيم أكثر؟
كيف لم نر أن لا تجربة واحدة في العالم العربي استطاعت أن تؤسس نظاماً ديمقراطياً.
الدول العربية قبل "ثوراتها" ليست هي ما بعدها، فقد بدأت تحلم بالربيع لتجد نفسها وسط خريف يقطر دماً، دول تكره بعضها وشعوب لا تثق ببعضها، دول اهتزت بحركة جنونية ففقدت توازنها، وترنحت على رائحة السلطة والمال والنفط وفتاوى التحريض والكراهية.
من دمر منها دمر ومن بقى أوغل في الترويع حتى لا يصله الحريق فبتنا أمام نوعين من المواطنين: الأول محطم، والثاني يرتعد خوفاً، فهل بهؤلاء تبنى الأوطان.
الاكتشاف الأسوأ أن جميعنا لم نكن أكثر من بيادق في لعبة الأمم الكبرى ،فقتلنا أولادنا وأفنينا مواردنا وهدمنا أوطاننا واستدعينا كل أسلحة الإبادة الحديثة وكل الفتاوي والإعلام والتحليل والتنظير لثورات لم تكن أكثر من لعبة.
لكن حين قررت الدول الكبرى الولايات المتحدة وروسيا نهايتها سكتنا بين عشية وضحاها ...يا لخزينا أمام هذا الركام الكبير الذي خلفناه لأجيالنا القادمة ليس فقط ركام الحرب بل ركام الثقافة والوعي.
أحد الكتاب الأوروبيين كتب مقالاً يطالب دول أوروبا بأن تترك العرب يكملون حروب الردة قائلاً: نحن كنا مثلهم قبل أربعمائة عام .. إنهم يحتاجون مثلها كي يصبحوا مثلنا .. اتركوهم يطحنون بعضهم، وبالنهاية سيكتشفون ما اكتشفناه. هم لا يتعلمون مثل باقي الأمم؛ لذا يجب أن يغرقوا في الدم أكثر حتى يصلوا إلى قناعة وفهم أن عليهم التعايش حين يعرفوا بعد صراعات طويلة أنه لا أحد بإمكانه أن يلغي الآخرين.
هكذا جعلت منا الثورات مدعاة للسخرية وسط أمم ترى حاضرنا يشبه قرونها الوسطى وواقعنا يشبه ماضيها المتخلف وسلوكنا يشبه توحشها ما قبل الحضارة وهم يرون سكاكين الذبح باسم الله وشيوخنا يشبهون قساوسهتم الذين كانوا محرضين على القتل والسفك والدمار وليس المحبة والسلام، فما حاولنا بناءه منذ عقود انهار في سنوات قصيرة لكن نتائج الانهيار ستستمر لعقود قادمة.
سورية لن تعود سورية الموحدة، فكل صنع لنفسه بالمال والسلاح والمخابرات حصته في ذلك البلد العربي الأصيل الذي احتضن الفلسطينيين وظل حتى اللحظة الأخيرة داعماً للمقاومة. سورية دولة ممانعة حقيقية لم تطبع مع إسرائيل برغم كل ما يقال لهذا دمرت.
العرب بعد كل حركة الجنون التي اجتاحتهم أكثر انكشافاً وضعفاً حد الهزال والهزل وإسرائيل أكثر قوة وأكثر مناعة .. هذه هي النتيجة التي تنتصب أمامنا أعيننا وأمام كل الذين تصدروا مشهد التحريض وأمام الذين انجروا بتأثير الإعلام من كتاب انساقوا وشعوب استلبت ..
وبالمناسبة، أين القرضاوي وعزمي بشارة أم أن اللعبة انتهت كما قررت الولايات المتحدة؟!
أكرم عطا الله
2016-03-20
[email protected]