شغل موضوع ما يسمى اليسار الاسرئيلي مكاناً مهماً في نقاشات العديد من الأوساط اليسارية في المنطقة وفي العالم، انطلاقاً من رفض غالبية اليساريين العرب مقولة وجود "يسار صهيوني" في وقت دافعت فيه بعض الأوساط عن وجود "يسار إسرائيلي" داخل الدولة العبرية، مستندة في ذلك الى وجود الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) الذي يضم في صفوفه عرباً ويهوداً، منذ اتخذ اسمه الحالي بعيد تفكك "الحزب الشيوعي الفلسطيني" في عام النكبة، وانقسامه الى حزبين واحد داخل الأراضي المحتلة عام 1948 وقد اتخذ عنوان الأمر الواقع تحت اسم "الحزب الشيوعي الإسرائيلي" بغالبيته العربية، والآخر في الضفة الغربية وقد اتخذ عنوان "الحزب الشيوعي الأردني" بعد توحيد الضفتين الشرقية والغربية اثر مؤتمر أريحا عام 1951، وصولاً الى انقسام الحزب الأخير الى حزبين أحدهما أردني والآخر فلسطيني عام 1982 تحت اسم "حزب الشعب الفلسطيني".
ان إشكالية مقولة "اليسار الصهيوني" أو "اليسار الإسرائيلي" لا تعود فقط الى الاسم، بل الى المعنى أيضاً، في سياق تشريح سياسات الاتجاهات الصهيونية المحسوبة على ما يسمى اليسار كحزب "راكاح" الذي يتبنى حل الدولتين، أو مجموعة "ميرتس" التي تضم أطيافاً من الإسرائيليين الذين يتبنون بعض الأفكار الإشتراكية، ويدعون الى حل سلمي للصراع، وفق رؤية هي أقرب ما تكون الى رؤية حزب العمل الإسرائيلي. فاليسار الإسرائيلي يدعو الى الإنسحاب من "أراض فلسطينية وعربية" وذلك بهدف الإنفصال عن العرب، في خطاب يعتمد على العنصرية، ولكن بلغة ناعمة.
ان الطامة الكبرى الإضافية عند البعض، أن يتم تصنيف حزب العمل الإسرائيلي باعتباره من أحزاب اليسار، فيما هو إفراز للعنصرية والفاشية الصهيونية وقد خاض حروب الدولة العبرية ضد الفلسطينيين والعرب عموماً، وكان على الدوام شريكاً في حكومات متطرفة.
في هذا السياق، فإن المؤشرات التي تعطيها استطلاعات الرأي المتتالية داخل إسرائيل تشير بوضوح ومن دون لبس الى تزايد جنوح المجتمع الإسرائيلي نحو اتجاهات اليمين واليمين المتطرف بشقيه: اليمين التوراتي، واليمين القومي الصهيوني العقائدي، حيث باتت التشكيلة الحكومية الإسرائيلية هي الأقرب الى تلك الروحية، خصوصاً مع وجود بعض العتاة من أقطاب اليمين الصهيوني في موقع المقرر داخل المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر وعلى رأسهم الفاشي المتطرف الروسي الأصل أفيغدور ليبرمان.
إن مسألة طغيان الاصطفافات اليمينية والجنوح نحو التطرف، باتت أمراً مستفحلاً داخل إسرائيل وباتت معها السياسات العنصرية متجذرة، فالعنصرية نموذج أطلقه ليبراليون إسرائيليون وتجذر منذ عام 2000 حيث اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، حين قادت موجة التحريض على المواطنين العرب داخل مناطق العام 1948 في حينه حكومة اليسار الممثلة بحزبي العمل ومجموعة "ميرتس" المؤلفة من ائتلاف (راتس + شينوي + المابام) فالجميع التزم الصمت عندما قتلوا ثلاثة عشر مواطناً فلسطينياً هبوا لنصرة شعبهم داخل المناطق المحتلة عام 1967.
وكمثال اضافي، فان "قانون الولاء لإسرائيل كدولة يهودية" توافقت عليه مختلف الأحزاب الإسرائيلية، وهو يعني تنازل الفلسطيني داخل المناطق المحتلة عام 1948 عن وجوده وكيانه، وسلخه عن قضيته.
ان اليسار الإسرائيلي لم يستيقظ من سباته العميق، ولم ينبس ببنت شفة عندما اقتصرت هجمة أفيغدور ليبرمان العنصرية على المواطنين العرب، بل شارك نواب محسوبون على تيار الوسط في تشريع سلسلة قوانين بهدف تقييد حرية التعبير والنشاط السياسي للفلسطينيين في الداخل المحتل عام 1948.
ومع ذلك، فإن التحركات على الأرض داخل فلسطين وفي مجرى الصراع مع الاحتلال وصمود المقاومة والشعب الفلسطيني، أنتجت تحولات تمخضت عنها تفعيلات ولو محدودة داخل النسيج المجتمعي في الدولة العبرية، عبر قيام منظمات حقوقية إسرائيلية تنشط في مجال حقوق الإنسان الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967، وتضم في صفوفها عرباً ويهوداً من داخل الأرض المحتلة عام 1948، في خطوة جيدة حتى لو كانت محدودة الحضور والفعل والتأثير، وقد استنفرت الأحزاب الإسرائيلية المختلفة لمواجهتها ومنها حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني الفاشي المتطرف بزعامة أفيغدور ليبرمان.
ان الصراعات الحزبية داخل الخريطة السياسية الإسرائيلية وانسداد أفق العملية السياسية، أفضت الى توالد أشكال مختلفة من الأزمات داخل خريطة الأحزاب الإسرائيلية، حيث شهدت الفترات الأخيرة تحركات لشخصيات محسوبة على اليسار لبحث إمكان إنشاء حركة سياسية جديدة تحمل اسم "المعسكر الديموقراطي" مع احتمال أن تتحول لاحقاً الى حزب يخوض الانتخابات البرلمانية في المرحلة التالية.
علي بدوان
* كاتب فلسطيني