أمير الشهداء خليل الوزير "أبو جهاد" جَسَّدّ أسطورة العنفوان الثوري الفلسطيني

بقلم: عاطف محمد شعث

أحد أهم أعمدة العمل الوطني وأبرز القيادات الفلسطينية الوطنية والشخصيات السياسية العربية المرموقة؛ ولد القائد خليل ابراهم محمود الوزير "أبو جهاد" "أمير الشهداء" عام 1935 في بلدة الرملة بفلسطين، وغادرها مع عائلته متوجهين إلى غزة بعد نكبة فلسطين عام 1948م، وانتخب رئيساً لإتحاد طلبة مدرسة فلسطين الثانوية فى غزة، وشكل منظمة سرية كانت مسؤولة عن تفجير خزان كبير للمياه قرب قرية بيت حانون في عام1955م ، في وعام 1956 إلتحق بمقاعد الدراسة في جامعة الاسكندرية، ثم غادر مصر إلى السعودية للتدريس حيث أقام فيها أقل من سنة، وبعدها توجه إلى الكويت وظل فيها حتى عام 1963م، وهناك إلتقي الزعيم ياسر عرفات، وجمعهم حب فلسطين وعشق النضال، وبدأ في تأسيس اللبنات الأولى لحركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وتولى مسؤولية "مجلة فلسطينيا" التي تحولت إلى منبر لاستقطاب المنظمات الفلسطينية التي كانت متناثرة في العالم العربي، كيف لا يكون ثائراً، وهو من شهد نكبة فلسطين شبلاً، وعاصر جذوة الفكر القومي الثورى في مصر وسوريا شاباً، وعاش على رحى ثورة الجزائر وتأثر بها.

وبعد الكويت توجه إلى الجزائر حيث سمحت السلطات الجزائرية بافتتاح أول مكتب لفلسطين، وتولى أبو جهاد مسؤولية المكتب، وبعد الحصول على موافقة السلطات الجزائرية بالسماح لكوادر حركة فتح بالمشاركة في دورات عسكرية، باشر أبو جهاد بإقامة معسكر تدريب للفلسطينين المتواجدين هناك، ومن هناك أيضاً بدأت علاقات الحركة الوليدة بالعالم، لقد أبو نجح جهاد في العديد من الصداقات مع ممثلي حركات التحرر العالمية، حيث نجح في توطيد العلاقات بينه وبين القائد الأممي جيفارا الذي أمضى فترة في الجزائر قضاها بصحبة الأخ أبو جهاد تعرف فيها على حركة "فتح" وأهدافها وتطلعاتها، وقد كانت هذه العلاقة فاتحة خير لضمان الدعم الكوبي لحركة فتح، كما توجه برفقة أبو عمار الذي عرف يومها باسم "محمد رفعت" بالزيارة التاريخية للصين في آذار/ مارس 1964، والتي تعهد قادتها بدعم الثورة فور انطلاق شرارتها، ثم توجه لزيارة فيتنام وكوريا الشمالية، وقد سخر أبو جهاد هذه العلاقات من أجل تهيئة المناخ، وبناء الأساس الصلب للإعلان عن الكفاح المسلح الفلسطيني وإطلاق الرصاصة الأولى في 1/1/1965م، وما تبعها من تصعيد كفاحي.

كان تأسيس "مجلة فلسطيننا" بمثابة الراية الأولى لحركة فتح عام 1959م في سماء بيروت، وافتتاح أول مكتب لفلسطين عام 1963م كان الراية الثانية التي ارتفعت في سماء الجزائر التي اعتبرها أبو جهاد الراية التي لازمت عودة الكيان الفلسطيني إلى الحياة بتأسيس حركة فتح، وجاءت انطلاقة حركة فتح في 1/1/1965م تتويجاً لرؤية القادة المؤسسين الأكثر استجابة لواقع الشعب الفلسطيني، منطلقين نحو تحرير فلسطين وكان الكفاح المسلح سبيلهم تحت شعار "لتتوجه كل البنادق نحو العدو"، وفي تعليقه على بيان قيادة منظمة التحرير الرافض لعملية انطلاقة الثورة عام 1965م، رد قائلاً بكل شجاعة ثورية: "سقطت قيادة المنظمة عندما اعتبرت نفسها فريقاً يواجه فريقا آخر، ولم تعتبر نفسها قيادة للشعب كله. فشلت قيادة المنظمة، عندما اعتبرت أن تحرير الأرض مسألة تتعلق بالاختصاصات وتوزيع المسؤوليات. سقطت شرعية قيادة المنظمة، حين أسقطت بيدها مصداقيتها فأعلنت رفضها للكفاح ضد العدو. وهكذا كان لا بد من العمل الحثيث والكثيف لإعلان السقوط الرسمي لهذه القيادة، فنلغيها كمنهج وأسلوب عمل وعلاقات وتحالفات...".

وفي عام 1965م توجه أبو جهاد إلى دمشق وهناك أقام مقر القيادة العسكرة لحركة فتح، وكُلف بالتواصل مع الخلايا الفدائية داخل فلسطين، وقام أبو جهاد بتوجيه عمليات عسكرية ضد الجيش الإسرائيلي في منطقة الجليل الأعلى، وشارك في حرب 1967م، كما كان أحد قادة الدفاع عن الثورة الفلسطينية ضد المؤامرات التي تعرضت لها في الأردن، وبعد الانتقال الفدائي إلى لبنان كان للأخ أبو جهاد دور بارز في تثبيت قواعد الثورة هناك والتصدي لمحاولات القوى الانعزالية التي كانت تستهدف الوجود الفلسطيني في الجنوب اللبناني وبيروت والشمال، وتولى بعد ذلك المسؤولية عن القطاع الغربي في حركة فتح، وهو القطاع الذي كان يدير العمليات في الأراضي المحتلة، وخلال توليه قيادة القطاع الغربي من عام 1976م حتى عام 1982م كانت له تجربة متميزة حرص خلالها أبو جهاد على ممارسة قناعاته وكرس كل إمكانياته الأخرى، حيث عمل على تأسيس القواعد التنظيمية في الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي أل 48، كما عكف على تطوير القدرات القتالية لقوات الثورة في الجنوب اللبناني، وأشرف شخصياً على إدارة العمليات ضد العدو الصهيوني من الأراضي اللبنانية، كما كان له دوراً بارزاً في قيادة معركة الصمود في بيروت صيف 1982م والتي استمرت 88 يوماً.

ومن العمليات العسكرية التي خطط لها أبو جهاد، عملية نسف خزان زوهر عام 1955م، وعملية نسف خط أنابيب المياه (نفق عيلبون) عام 1965م، وعملية فدائية ضد دورية لجيش الاحتلال في مدينة غزة يوم 28/8/1967م، وعملية فندق (سافوي) في تل أبيب و قتل 10 إسرائيليين عام 1975م، وعملية انفجار الشاحنة المفخخة في القدس عام 1975م، عملية قتل "البرت ليفي" كبير خبراء المتفجرات ومساعده في نابلس عام 1976م، إضافة إلى عملية دلال المغربي التي قتل فيها أكثر من 37 إسرائيليا عام 1978م، وعملية قصف ميناء ايلات عام 1979م، وقصف المستوطنات الشمالية بالكاتيوشا عام 1981م، وأسر 8 جنود إسرائيليين في لبنان ومبادلتهم بـ 5000 معتقل لبناني وفلسطيني و 100 من معتقلي الأرض المحتلة عام 1982م، وخطط لاقتحام وتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور، الأمر الذي أدى إلى مصرع 76 ضابطاً و جندياً بينهم 12 ضابطا يحملون رتباً رفيعة عام1982م، إدارة حرب الاستنزاف 1982م- 1984م في جنوب لبنان، والتخطيط لإستهداف وزارة الدفاع الإسرائيلية وعملية مفاعل ديمونة عام 1988م.

أبو جهاد الذي يعتبر أول من ساهم في البناء التنظيمي في الشتات وفي الداخل الفلسطيني وأحد الأوائل في الخلية الأولى؛ مع اندلاع الانتفاضة الشعبية الأولى نهاية عام 1987م بادر ليصبح العقل المدبر والموجه وشكل القيادة الموحدة بعد أيام من اندلاعها، وصدر أول بيان يحمل اسم "القيادة الوطنية الموحدة" لتصعيد الانتفاضة يوم 9/1/1988م، وبدأ أبطال الانتفاضة يتحركون طبقاً لبرنامج أبو جهاد الذي تألف من (10 نقاط) حدد فيها مهام الانتفاضة وواجباتها على الصعيدين التنظيمي والسياسي، حيث قال: "إن الانتفاضة قرار دائم وممارسة يومية تعكس أصالة شعب فلسطين وتواصله التاريخي المتجدد"، فكان المهندس الحقيقي للانتفاضة وواحداً من أشد القادة المتحمسين لها، كما كان حريص على الوحدة الوطنية وصاحب دعوة الجميع للوحدة باتجاه فلسطين؛ كان دائما مع البندقية الفلسطينية الموجهة ضد الصهاينة فوق أرض فلسطين، وكان مؤمناً بأن "مصير الاحتلال يتحدد على أرض فلسطين وحدها وليس على طاولة المفاوضات".

وعقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982م، انتقل أبو جهاد للعيش مع عائلته إلى تونس، وبعد حصار بيروت عام 1982م، وخروج قوات وقيادة الثورة، عاد أبو جهاد مع رفيق دربه الزعيم ياسر عرفات إلى مدينة طرابلس ليقود معركة الدفاع عن معاقل الثورة في مواجهة المنشقّين المدعومين من الجيش السوري، وبعد الخروج من طرابلس توجه أبو جهاد إلى تونس حيث مقر المنظمة ومقر إقامة أسرته، وتنقل بين الدول العربية للوقوف عن كثب على أحوال القوات الفلسطينية المنتشرة في تلك البلدان، وحاول أن يبلور من جديد المنظمة التي تلقت ضربة بالغة، وكان من عادته عدم المكوث في تونس بين أهله سوى بضعة أيام، لكنه مكث 15 يوماً في الزيارة الأخيرة له في ربيع 1988م، لقد كان أبو جهاد قائدا يمتلك الإمكانيات والقدرات العالية جداً، فكان الرجل الثاني في الثورة الفلسطينية بكل معنى الكلمة، لكنه الرجل الأول في العمليات التنظيمية والعسكرية، وقد تقلد العديد من المناصب والمهام خلال حياته، فقد كان عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، وأحد أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني، وعضو المجلس العسكري الأعلى للثورة، وعضو المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونائب القائد العام لقوات الثورة.

شعر الكيان الصهيوني بحجم خطورة هذا القائد العملاق لما يحمله من أفكار وطنية وثورية نقية وصلبة، ولما قام به من عمليات جريئة ضد الاحتلال، وقد اعتقد قادة العدو الإسرائيلي أنهم إذا ما اغتالوه بصفته محرك العمل العسكري ضدهم على امتداد الوطن الفلسطيني المحتل، وبصفته “مهندس الانتفاضة” فإنهم قد يلجموا مسيرة الكفاح الوطني الفلسطيني، وبالتالي قرر هذا الكيان الصهيوني التخلص من هذا الكابوس المتمثل في أبو جهاد، وبعد انتهاء عملية اختطاف الباص الذي كان يقلُّ موظفي مركز الأبحاث النووية في ديمونا، عقد مجلس الوزراء الصهيوني المصغر، وعلى رأس جدول الأعمال اقتراح قدّمه الموساد باغتيال "أبو جهاد" أحد أفراد منظمة التحرير الفلسطينية، لم يكن قرار تصفية أبو جهاد عفوياً ولحظوياً، بل كان هناك أسباباً عديدة منها في المقدمة الدور الرئيس لأبى جهاد في الانتفاضة الشعبية، والدور العسكري الذي يقوم به، والصلابة والثبات التي يتحلى بها، فهو لم يتخلَ عن عن فكرة الكفاح أبداً، وكان يردد: "لماذا لا نفاوض ونحن نقاتل؟".

وفي 16 نيسان/ أبريل 1988م تسلل أفراد من الموساد الإسرائيلي عبر البحر إلى العاصمة التونسية، وتمكنوا من الوصول إلى بيته بالتواطؤ مع عملاء تونسيين، وقاموا باغتيال أبو جهاد بطريقة وحشية على مرأى أفراد عائلته، وفي تلك اللحظات العصيبة المشحونة بالقلق والتوتر لم يتراجع القائد أبو جهاد ولم يختبئ، بل خرج فوراً للمواجهة قابضاً على زناد مسدسه ليبادر كعادته بإطلاق الرصاصة الأولى على أعدائه، فأصاب أحدهم لكن سرعان ما أطلقت مجموعة الغدر زخات كثيفة من الرصاص الذي إنهمر بشكل غزير على كفه فانفجر المسدس في يمينه، ومن ثم تناوب القتلة على الضحية، أربع وسبعون طلقة اخترقت رأسه وجسده الطاهر، وكان ظهره للحائط، وكأنما كان عليه وهو في لحظة استشهاده أن يلخص كل مأساة الفلسطيني المعاصر الذي يقاتل وظهره للحائط، كيف لا وهو من عَلَمَّ المناضليين بأن "أي مكسب ينتزع من الاحتلال هو مسمار جديد في نعش الاحتلال" وهو صاحب رؤية الكفاح المسلح كطريق لتحرير فلسطين ودحر الاحتلال.

ويسرد الصحافي الايرلندي غوردون طوماس في كتابه (انحطاط الموساد) ما جرى في تلك اللحظات الحرجة "في 16 نيسان 1988م صدر الأمر بالتنفيذ، في تلك الساعة أقلع عدد من طائرات بوينغ 707 التابعة لقوة الجو (الإسرائيلية) من قاعدة عسكرية تقع جنوبي تل أبيب، كانت واحدة تقلّ إسحاق رابين وعدداً من كبار الضباط (الإسرائيليين)، وكانت على اتصال دائم عبر لاسلكي سري بفريق الاغتيال الذي اتخذ أفراده مواقعهم بقيادة عميل اسمه الرمزي سورد، كانت الطائرة الأخرى مكدسة بأدوات المراقبة والتشويش، وكانت طائرتان أخريان تنقلان خزانات الوقود، وعلى ارتفاع شاهق فوق الفيلا حام أسطول الطائرات في الفضاء وهو يتابع كل حركة على الأرض عبر تردّد لاسلكي، وبعيد منتصف الليل في 16 نيسان سمع الضباط المحمولون جواً أن أبا جهاد قد عاد إلى منزله بسيارة المارسيدس التي كان ياسر عرفات قد قدّمها له كهدية عرسه"، ولا غرابة أن يشترك في عملية الإغتيال للقائد أبو جهاد قيادة العدو وكبار الضباط ومئات الضباط من كوماندوز القوى الاستخباراتية والأمنية والجوية والبحرية الصهيونية وتنفق ملايين الدولارات.

إن الرصاصات التي أطلقها الصهاينة الأربعة صحيح أنها أنهت حياة أبو جهاد على الأرض، ولكنها أحيته في قلوب ملايين الفلسطينيين والعرب وأحرار العالم. لقد كانت هناك على مكتب أبو جهاد رسالة يَهمُ بتسطيرها للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، كان قد كتب منها أربعة وأربعين كلمة فقط، ولم يكمل أبو جهاد الرسالة، وكأنما ترك فيها وصيته الأخيرة: "أكملوا رسالتي من بعدي"، لم يكمل الأخ أبو جهاد رسالته الأخيرة للقيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة، وكانت أخر كتاباته "لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة"، لم ينطق بكلمة واحدة غير أنه تمتم بالشهادة وهو يضغط بسبابته على زناد مسدسه، وما أن انتشر الخبر المفجع حتى عم الحزن على كل الشعب الفلسطيني والعربي، وفي أرض الانتفاضة شهدت شوارعها ذلك اليوم أعنف التظاهرات منذ اندلاعها. استشهد أبو جهاد في العاصمة التونسية، وهو يحمل وسام الانتفاضة ومهندسها واستحق لقب (أمير الشهداء)، ودفن في مقبرة الشهداء بمخيم اليرموك في العاصمة السورية في العشرين من نيسان 1988م، حيث شارك في تشييع جنازته أكثر من نصف مليون من الجماهير العربية والفلسطينية وعلى رأسهم رفيق دربه الزعيم ياسر عرفات "أبو عمار"، وكبار الشخصيات السياسية والعسكرية والأمنية العربية والفلسطينية.

وقد ذهب المناضل الأممي الجنرال "جياب" على رأس القيادة العسكرية للثورة الفيتنامية إلى مقر منظمة التحرير الفلسطينية في هانوي لتأدية التحية العسكرية لأبو جهاد، ولخص دور أبو جهاد وأهميته التاريخية في سجل التعازي على النحو التالي: "قدم الرفيق أبو جهاد دائما الدعم النشيط للشعب الفيتنامي وأكن له المشاعر الأخوية الحميمة .. لقد ترك لي الرفيق أبو جهاد الذكريات العميقة. لقد كان قائدا عبقرياً خلاقاً، وله ثقة كبيرة بالإنتصار النهائي للثورة الفلسطينية"، إن القائد البارز أبو جهاد يعتبر بمثابة القابلة التي وُلِدَّت على يديها الثورة الفلسطينية المعاصرة، قد زاد من اشتعال جذوة الكفاح المسلح الفلسطيني، وزاد من هياج الجماهير في الوطن المحتل لتصعيد الانتفاضة، وأصبحت ذكرى اشتسهاد القائد الملهم تُشكل رافعة للإبداع النضالي ومعززاً للصمود والتحدي والبقاء، وتعبيراً عن الوفاء لدماء الشهداء، واليوم تأتي الذكرى الثمانية والعشرون لرحيل القائد أبو جهاد في ظل اشتعال هبة القدس الجماهيرية، وإن كنا قد خسرنا جسد أبو جهاد فإنَّ فكره مازال يوقد الانتفاضات ويغذي ديمومة الثورة، ولن يستكين الشعب الفسطيني والأمة العربية إلا بتحرير فلسطين واقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف.

بقلم/ د. عاطف محمد شعث