منذ أيام وهي تراودني ، أن أخرجني إلى النور ، أنشغل عنها فتضيع ، اليوم كان لديها إصرار على القذف نحو الورق ، أطعتها ، قالت لي : ثاني يوم الحرب رأينا عساكرنا عائدين في الشوارع , سألناهم : ما الذي حدث أجابوا : لا تخافوا تغيير مواقع .
لكن الوجع في نفوسنا لا يصدق ، رأيت خالي الضابط على رأس الشارع يمشي متثاقلاً تبدو عليه علامة الانكسار ،ليس كعادته , غابت الابتسامة عن وجهه المرهق , دخل البيت وقال لأمي : خلاص انكسرنا ، فبكت أمي وبكينا لبكاء خالي الضابط ، قامت أمي بفك الصرة التي أعدت فيها ملابسها ومفتاح الدار ، لأنها كانت ستعود إلى يافا ويبنا ، قام خالي بفك البندقية سلاحه الشخصي ، ملأها بالسمنة والزيت ثم لفها بالخيش ودفنها في الأرض ، قال لي : قد تنفعكم أنت وأخوتك في المستقبل ، حافظوا عليها ، لم أكن أعي ما يقول ، هززت رأسي ثم خرجت غير محتمل معنى الهزيمة , رأيت جارنا الشيخ يصلي ركعتين لله حمداً على الهزيمة لأنها هزيمةٌ لناصر ، كان الشيخ قد رمى بندقيته في البحر قبل الحرب بثلاثة أيام واختفى ، لأن فيها نصرةً للكفرة كما أشاع في الحارة .
بعد أربعة أيام طلب مني خالي أن أذهب إلى مخيم البريج لأحضر له ملابس داخلية وخارجية لأن إقامته ستطول عندنا ، وأنا الصبي ابن الثالثة عشرة ، فأنقدني شلن مصري, وقال : امش على شاطئ البحر ثم ادخل النصيرات ثم إلى مخيم البريج وارجع من نفس الطريق ، رسم لي خطة الحركة ، انطلقتُ أسير على شاطئ البحر وحيداً ، وجدت امرأةً تسير فسارت معي ، وسرت معها مستأنساً ،أخبرتني أنها تبحث عن زوجها الجندي المصاب في الحرب , وتعتقد أنه عند أهلها في دير البلح , أنا لم أخبرها بحكايتي لأنها سر من أسرار العائلة , على شاطئ الشيخ عجلين مرَّت فوقنا طائرة هليوكبتر ودارت حولنا دورتين ، رفعت السيدة شاشتها البيضاء للطائرة فتركتنا وانصرفت ، وصلتُ البريج بعد الظهر وأخذت صرة الملابس لكنني غيرت خطتي وركبت كارة حمار بقرشين إلى غزة , وقد نمت طول الطريق من التعب ، صحوت وأنا في الشجاعية وكان الرجل قد غطاني بقطعة قماش صغيرة كانت على ظهر الحمار . ثم مشيت من الشجاعية وحتى الشاطئ وإطلاق النار فوق رأسي لا أعرف من أين . بعد أسبوعٍ طلب مني خالي أن أذهب إلى مخيم البريج لإحضار عروسته , وكان قد تزوج قبل الحرب بشهر واحدٍ فقط قال : ( يا خال خذ شلن وروح جيب لي عروستي ) قلت له : حاضر ، كيف أعترض وهو الضابط الذي يملأ الدنيا إجلالاً وعظمةً عندما كان يزورنا . وجعل لنا في الحارة هيبة ، إنني أردت الذهاب هذه المرة من الشارع الرئيسي من شارع صلاح الدين , فقد أجد كارة حمار تحملني ، لكنني لم أجد فأخذتها مشياً , ورأيت دبابات إسرائيلية لأول مرة في حياتي عائدةً
من سيناء وفوقها جنود إسرائيليون وجهوهم مغبرّة مكفهرّة من آثار الحرب ، وصلت منطقة ما قبل وادي غزة ، شممت رائحة وإذا بالجثث مترامية في منطقة خلاء شرقي الإسفلت بملابسهم العسكرية ثم مشيت فازدادت الرائحة ، رأيت رجلاً يقف على حافة البيارة ، سألته عن الرائحة ، قال : انظر هؤلاء خمسة هنود من قوات الطوارئ الدولية طخوهم اليهود فهربوا وماتوا وهم متسلقون على الشجر ، نظرت إليهم فوجدتهم جثثاً منفوخةً ، أكملت مسيرتي ، الجو حارٌ جداً كئيب في حزيران لا أحد في الشوارع كانت عيني تنظر إلى بئر الماء الذي قبل وادي غزة بقليل ، ماؤه عذب وباردة ، وصلت وطلبت من الحارس شربة ماء ، لبّى طلبي ثم شكرته ، وصلت مخيم البريج ، وطلبت من عروسة خالي أن تجهز نفسها للذهاب إلى مخيم الشاطئ , أخذت تبكي على فراشها الجديد وجهازها وملابسها ، قلت لها : شنطة صغيرة فقط ، حملتها ، وقفنا على شارع صلاح الدين في مدخل مخيم البريج ، ننتظر ما سيأتي ، وقد قالت لي وهي تبكي : لا أستطيع المشي إلى غزة ، قلت : أعرف , وأنا أتمتم في نفسي ، بنات يافا مدلعات ، بعد ساعة من الانتظار وصلت كارة حمار صغيرة ذات عجلين من الخلف ، في العادة يقودها رجل ، هنا ، رأيت حماراً يقودها ، أوقفت الرجل وطلبت أن يوصلنا إلى غزة ، طلب شلن ، قلت : أنا سأركب ، قال : لا, كمان شلن ، قلت : سأمشي ، بعد ثلاث ساعات وصلنا الشجاعية ، ثم مشينا أنا أحمل الشنطة وهي تبكي ، وفي ميدان ساحة فلسطين أطلقوا علينا الرشاش ، أنا لا أعرف هل هو علينا أم على غيرنا أم في الهواء ، المهم أنني هربت إلى حي الفواخير ثم شارع الوحدة وهي تجري خلفي وتصرخ ، وصلنا الشاطئ عصراً وأنا أحمل شنطة العروس , متباهياً , فرحاً لخالي ، أنني أنجزت المهمة ، لكنني مرهق و متعب حتى الآن , واشتعل الرأس شيبا.
بقلم/ د. محمد بكر البوجي