لأول مرة أزور عاصمة أذربيجان، باكو. ودعني أعترف بأنني فوجئت أيما مفاجأة ليس فقط بجمال المدنية الآسر ونظافتها وحسن تنظيمها وعراقة مبانيها ومساحاتها الخضراء، بل أيضا بمساحة الجهل لدى، وربما للعديدين من أمثالي، عن مدى تقدم هذه البلاد وعاصمتها الأجمل، بسبب غياب المدينة عن شاشة الأحداث العالمية واستقرار النمطية حول الجمهوريات الإسلامية التي كانت تخضع للاتحاد السوفييتي سابقا.
حيث تكوّن الانطباع منذ أوائل التسعينيات بأنها دول متخلفة بدائية مفككة، كما أن هوية هذه الشعوب موضع تساؤلات، خاصة أن سياسة الدولة السوفيتية كانت خلط الأعراق بعضها ببعض، وإلغاء مكوناتها الدينية والحضارية، واستبدالها بمنظومة الحكم الشمولي للحزب الشيوعي، الذي لم يستطع أن يبني نظاما بديلا للرأسمالية قادرا على الاستقرار فالاستمرار، وظل يحمل بذور انهياره بداخله إلا أن انهار. وعندما لاحت للمعسكر الغربي فرصة تخريب الاتحاد السوفييتي التي وفرها لهم الرئيس ميخائيل غورباتشيف، حتى تسربوا من مسامات الجسد الكبير ففتتوه بسرعة خيالية وبقيت موروثات سبعين سنة أو يزيد تطفو على السطح على شكل حروب أهلية أو بينية، كان من بينها الصراع المرير بين أذربيجان وأرمينيا على إقليم ناغورنو كاراباخ بين عامي 1991 و1993، وانتهى لكارثة بالنسبة لأذربيجان. وإليكم حكاية الزيارة.
منتدى تحالف الحضارات
كان سبب حضوري إلى باكو، دعوة كريمة تلقيتها من إدارة مكتب ممثل الأمم المتحدة السامي لتحالف الحضارات، السفير ناصر عبد العزيز النصر، للمشاركة في المنتدى العالمي السابع لتحالف الحضارات في مدينة باكو من 25 إلى 27 أبريل الحالي فقبلت الدعوة. وجهت الدعوات لكافة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، حيث شارك في المؤتمر ممثلون عن 147 دولة، وعدد كبير من منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص والتجمعات الشبابية ووسائل الإعلام، فوصل عدد الحضور إلى أكثر من ألفين. وفكرة تحالف الحضارات أطلقتها كل من تركيا وإسبانيا وقطر عام 2005، تطويرا لفكرة طرحها الرئيس الإيراني محمد خاتمي عام 2000 تحت عنوان "حوار الحضارات". وكل هذه الأفكار والمبادرات جاءت ردا على نظرية صامويل هنتنغتون في تصادم الحضارات، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر التي آذنت ببدء حرب لها أول وليس لها آخر، أطلق عليها الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش "الحرب على الإرهاب"، وكان يقصد فيها "الحرب على الإسلام والمسلمين"، وهي مستمرة ليومنا هذا تحت أسماء ويافطات مختلفة.
عقد المنتدى تحت شعار "العيش معا في مجتمعات شاملة: تحدٍ وهدف". ونصت وثائق المؤتمر على أن التهميش والاضطهاد والفقر والفساد والحكم غير الرشيد والتنميط وكراهية الأجانب وثقافة التمييز والتهجير والاحتلال والسلطوية، كلها جذور للصراعات التي نشهدها اليوم. وكي نخرج من عنق الزجاجة لا بد من عكس التيار باتجاه الشمولية والتعايش والتسامح، بإشراك الشباب في الحل وتعميم التعليم واستخدام وسائل الإعلام الحديثة والرياضة واستقبال مبادرات المجتمع المدني ونشر ثقافة تقبل الآخر. وقد اعتمد المشاركون "وثيقة باكو" التي تحمل مثل هذه الأفكار والخطط، التي لو اعتمدت ونفذت فستجد مرودا لها يؤسس لعلاقات بين الشعوب والأمم قائمة على الاحترام المتبادل ونبذ التمييز والتهميش والكراهية.
العاصمة باكو
من أجمل المدن التي شاهدت. وأؤكد لكم أنني شاهدت مدنا كثيرة حتى إنني قلت لصديق لا تسألني عن العواصم التي زرتها بل العواصم التي لم أزرها. وكما يعرف القراء أن المدن لها شخصيات تتميز بها وقد تقع في حبها من أول نظرة وتريد أن تعود لزيارتها مرة وراء مرة.. والمدينة قد تصاب بالتشويه والانبعاج والترهل والتداعي، إذا لم يكن هناك تخطيط رشيد في تمددها ونموها.. وأستطيع أن أقول إني وقعت في حب هذه العاصمة من أول نظرة حيث تفتح لك صفحة متناغمة من الجمال والتنمية والعراقة والمساحات الخضراء والطعام اللذيذ وسماحة أهلها وكرمهم مرة واحدة. تم ترميم المباني في المدينة القديمة المحاطة بسور تاريخي وأعيد بناء بعضها على الطراز القديم، فتقف حائرا في مدى انسجام البنايات في مساحات مريحة من المكان بدون تراص أو اختناق يوحي بعبق الماضي الجميل. في المدينة القديمة تشاهد القباب والمساجد القديمة والتكايا وأضرحة الأئمة والصالحين. ذكرها الرحالة العرب والفرس ووصفوها بأنها منابع الزيت. وقد بنى سورها القوي الملك الفارسي شروان شاه. ومن بين مآثرها "برج العذراء" المقفل من كافة الجهات إلا من المدخل الأساسي الذي بني في القرن الثالث عشر، ووضع على قائمة اليونسكو للمناطق المحمية عام 2000، باعتباره تراثا إنسانيا. وقيل إن البرج سمي بهذا الاسم بعد أن رمت أخت حاكم باكو بنفسها من قمته حتى لا تحرق كما حرق أخوها.
أما المدنية الحديثة خارج السور فتذهلك بمسارحها ومتاحفها العديدة وحدائقها الخضراء والتماثيل المنتشرة في كل مكان ونوافير المياه الراقصة وغير ذلك الكثير. أما الأبراج الحديثة فلا تكاد تمل التأمل في جمالها وروعة هندستها ونظافتها. وتقف ثلاثة أبراج أطلق عليها "الشعلة" بطريقة جمالية نادرة، حيث تتناوب عليها أضواء الليزر بالألوان العديدة وبأشكال بديعة راسمة علم البلاد يرفعه جندي نحو الذرى.
لكن المبنى الذي يثير الدهشة حقيقة هو ما جادت به عبقرية المرحومة زها حديد، أي "مركز حيدر علييف" وجسدته على أكثر من مئة ألف متر مربع. تشعر بالزهو والناس هنا يتحدثون عن المصممة العراقية التي أبدعت هذا المبنى، الذي اعتبرته قناة "سي إن إن" في برنامج سياحي من أجمل مبانى العالم. إنه تحفة تعجز عن وصفها في عجالة. لقد استوحت المبنى من فكرة الأمواج البيضاء المرتفعة في الهواء عاليا (74 مترا) ثم تعود تنساب بتناغم عجيب إلى البحر الواسع الذي يفغر فاه تاركا من أثر الموج شلال ماء حقيقيا ينساب بهدوء على الحائط الخارجي ليكمل جماليات المشهد. ولحسن حظنا فقد تقاسم المركز مع مركز المؤتمرات المجاور أعمال المؤتمر، فأتيحت لنا فرصة التعرف عليه من الداخل والخارج. قلت لصاحبي لعل السيدة حديد تريد أن تقول أنظر ما أصغر الإنسان عندما يقف بين هذين المبنيين الهائلين كأنه حبة خردل. لكنه في الحقيقة أكبر من المبنيين معا، لأنه بعقله الخلاق هو الذي صممهما وبناهما. لقد استغرق بناء المركز أكثر من خمس سنوات، وفاز بعدة جوائز منها، جائزة المتاحف لأفضل تصميم معماري لعام 2014، لتكون المبدعة العربية زها حديد أول امرأة تفوز بهذه الجائزة الرفيعة.
الدولة الناهضة رغم الحكم السلطوي
مرت أذربيجان بمراحل تاريخية عديدة، فمن الحكم الأموي إلى العباسي إلى السلجوقي إلى البويهي إلى العثماني، الذي ترك بصمته الأهم على شخصية البلاد وأعلنت البلاد عام 1918 أنها جمهورية مستقلة، بعد تفكك الامبراطورية العثمانية لتكون أول جمهورية ذات غالبية مسلمة، وتعلن في دستورها أنها دولة علمانية، رغم أن غالبيتها من الشيعة، ولا تحس ابدأ بأثر للدين على المستوى الوطني، بل ذلك أمر متروك للأفراد، كل يقرر علاقته بربه كما يريد. قام السوفييت بضم البلاد للاتحاد السوفييتي عام 1920وبقيت إحدى الجمهوريات المهمة التي تقدم البترول والغاز للاتحاد، وقد جند السوفييت نحو 600 ألف أذاري خلال الحرب العالمية الثانية. وبقيت كذلك إلى أن تم الانفصال التام بتاريخ 30 أغسطس 1991 لتصبح واحدة من ست دول يجمعها التاثير التركي وتشكل معا بتشجيع من تركيا المنظمة الدولية للثقافة التركية (تركـْسوي). حكم البلاد في ربع قرن الاستقلال الوالد حيدر علييف وابنه الرئيس الحالي إلهام. ومع أن هناك دستورا اعتمد عام 1995 يقر بفصل السلطات تماما إلا أن نوعا من المزاوجة بين الديمقراطية والسلطوية ما زال قائما. وتعتمد البلاد أساسا على تصدير النفط، فقد مد أنبوب نفط من أذربيجان إلى ميناء جيهان التركي لتصدير البترول منذ عام 2006، حيث يصدر مليون برميل يوميا. وقد استثمرت عائدات النفط والغاز التي كان يبلعها الاتحاد السوفييتي في تحسين البنى التحتية والصناعات والسياحة وأوضاع المواطنين، الذين لا يتجاوزون عشرة ملايين، بينما يقال إن في إيران وحدها نحو 30 مليونا من أصل أذاري.
الأقاليم المحتلة والوجع الدائم
المشكلة التي واجهتها البلاد منذ استقلالها وما زالت، استيلاء أرمينيا على إقليم ناغورنو كراباخ، بحجة أنه أرض أرمينية، وتشريد ما يقرب من 800000 من سكان الإقليم الذين أصبحوا لاجئين في بلدهم، ثم استغلت أرمينيا حالة التفكك والضعف عشية الاستقلال فاحتلت سبع مناطق أخرى محاذية للإقليم، ليكون مجموع ما اقتطعته من البلاد نحو 20٪. وقد فشلت كل الوساطات لحل النزاع سلميا، التي اضطلعت بها الأمم المتحدة ومنظمة التعاون والأمن الأوروبية ومجموعة منسك، بدون جدوى، بسبب تعنت أرمينيا التي تستقوي بموقف روسيا. وقد دفع هذا الموقف أذربيجان إلى تعزيزعلاقتها بتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، ظنا منها أن إسرائيل قد تكون الجسر الذي يدخلها إلى قلب الولايات المتحدة ويجلب لها الأسلحة المتطورة. تشعر أذربيجان الآن ومن مركز قوة بأنها قادرة على استعادة أرضها بالقوة وبسهولة مطلقة بعد أن بنت جيشا حديثا ومتطورا ومسلحا بطريقة متينة يشرف على تدريبه ضباط أتراك. وقد ذكر لي أستاذ جامعي من باكو أن ميزانية جيش البلاد للتدريب فقط يعادل كل ميزانية أرمينيا. "المشكلة ليست في أرمينيا بل في روسيا، لأن روسيا بعدما حدث في أوكرانيا مصممة على حماية حلفائها، حتى لو دخلت في مواجهات بنفسها كما فعلت في سوريا". أضاف قائلا. وما زالت أذربيجان تراهن على حل الأزمة سلميا، ومن منطلق القوة، فقد قامت بفرك أذن أرمينيا قبل نحو شهر باسترداد بعض المواقع الصغيرة المحتلة كرسالة لأرمينيا ومن يقف وراءها. وأضاف محدثي قائلا "ما أخذ بالقوة لا يمكن أن يسترد إلا بالقوة. المراهنة على حل سلمي خطأ لأن روسيا لن تسمح بهزيمة حليفتها أرمينيا".
لقد بدأت أذربيجان تتفهم الوضع الفلسطيني أكثر، حيث بادرت قبل خمس سنوات إلى الاعتراف بمنظمة التحرير ومنحتها مكتبا في العاصمة، واستقبلت السيد ناصر كريم كأول سفير لفلسطين في أذربيجان. "الشعب متعاطف تماما مع فلسطين لسببين أولا من الناحية الدينية، وثانيا لأن من تكون أرضه محتلة لا بد أن يتعاطف مع أمثاله ممن احتلت أراضهيم". وقال في غياب الوجود الفلسطيني والعربي لنحو ربع قرن من الزمان استفردت إسرائيل بالساحة، أما اليوم فالصورة بدأت تتغير لصالح عدالة القضية الفلسطينية.
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز
د. عبد الحميد صيام:القدس العربي