العمل الخيري الأردني والرؤية الهاشمية.. مسار واحد لدعم الشعب الفلسطيني

بقلم: عصام يوسف

أكسبت علاقة التلاحم العضوي التي تميز أبناء الشعب (الأردني والفلسطيني) الذي يعيش على ضفتي نهر الأردن حالة فريدة من نوعها في تاريخ الكيانات المجتمعية، ساهمت على مدى عقود مضت في استنهاض كافة المكونات السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الأردن ليكون السند والعزوة للشقيق "التوأم" الذي يعاني بسبب الاحتلال الإسرائيلي.   فقد حمل الأردن على عاتقه أعباء كبيرة تجاه أشقائه، غربي النهر، استدعتها التزامات القيادة الهاشمية الأخلاقية والإنسانية، وروابط الدم، حيث تمثّل جانب منها في شكله الإداري والقانوني الذي حرصت المملكة على أدائه في وجهه الأكمل رغم التحديات والصعوبات التي سعى بعضها للنيل من العلاقة الوحدوية والمصيرية بين أبناء الشعب الواحد.   ويدلل على ذلك حرص القيادة الهاشمية على تقديم الدعم السياسي والإنساني لمدينة القدس المحتلة، ورعاية المقدسات والعمل على تنفيذ مشاريع الإعمار بهدف تعزيز الهوية العربية الإسلامية للمدينة، ودعم صمود أهلها في وجه سياسة التهويد والاقتلاع الإسرائيلية.   وفي سبيل ذلك أطلقت القيادة الأردنية الصناديق الهاشمية ولجان الإعمار التي اتخذت بعداً مؤسسياً مع تأسيس الصندوق الهاشمي لإعمار المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة في عهد الملك عبدالله الثاني بن الحسين بموجب قانون صدر عام 2007 بعد تعديل قانون إعمار المسجد الأقصى رقم 32 لسنة 1954.   وتؤكد الشواهد بأن الهاشميين أولوا بيت المقدس ومقدساتها جل عنايتهم واهتمامهم منذ البواكير وتمثل ذلك في أشكال عدة بدءاً من التصدي للمزاعم الصهيونية في القدس، إذ مثلت تلك المزاعم تهديداً مباشراً للمدينة العربية وتراثها الحضاري، ليجري على اثر ذلك عام 1922م الإعلان عن "المجلس الإسلامي الأعلى" في القدس كمنظمة إسلامية غير حكومية للحفاظ على تراث المدينة المقدسة، حيث بادر المجلس إلى جمع الأموال اللازمة لترميم قبة الصخرة.   وتوالت عقب ذلك حملات الإعمار على يد القادة الهاشميين ففي عهد الملك المؤسس عبدالله الأول بن الحسين، وبسبب تضرر الحرم الشريف نتيجة حرب عام 1948، أطلق المغفور له (بإذن الله) دعوة لترميم محراب زكريا وإعادة ترميم المباني المحيطة التي لحقت بها أضرار هيكلية، وفي عام 1952 صدرت التوجيهات الملكية السامية في عهد المغفور له (بإذن الله) الملك الحسين بن طلال إلى الحكومة الأردنية لترميم قبة الصخرة، ليصار فيما بعد إلى تشكيل لجنة بموجب قانون خاص لإعمار المقدسات الإسلامية في الحرم القدسي الشريف تحت الرعاية الهاشمية، وعُرف القانون بقانون إعمار المسجد الأقصى المبارك والصخرة المشرفة رقم 32 لسنة 1954م.  وتحظى المقدسات الإسلامية في مدينة القدس في عهد الملك عبدالله الثاني بن الحسين باهتمام بالغ، حيث تم تنفيذ العديد من المشاريع كإعادة تصنيع  منبر المسجد الأقصى المبارك "منبر صلاح الدين"، وترميم  الحائطين الجنوبي والشرقي للمسجد الأقصى، وصيانة جدران المصلى المرواني، إضافة لتفعيل نظام الإنذار والإطفاء العامل في المسجد الأقصى، فضلاً عن مشاريع الأعمال الفنية الهادفة لترميم قبة الصخرة المشرفة، ومشاريع مستمرة في تطوير البنى والمرافق التحتية.   وألهمت روح العمل المؤسسي لدى الهاشميين من أجل فلسطين، رواداً في العمل الخيري إلى تكوين منظومات خيرية متطورة سارت بشكل متوازٍ مع آمال وطموحات القيادة الهاشمية في تلبية النداء الإنساني لإخوانهم الفلسطينيين، لتنطلق فيما بعد إلى فضاءات أوسع في مجال العمل الإنساني لتشمل بذلك المحتاجين في أرجاء العالمين العربي والإسلامي، حيث عملت هذه المنظومات ضمن أسس واضحة ومنهجية متطورة، ومهنية عالية اكتسبت على مدى سنوات طويلة المصداقية على المستويين العربي والإسلامي.   وتجلت رؤية القيادة الهاشمية في مجال العمل الخيري المؤسسي الممنهج في تأسيس "الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية" التي انتهجت سياسة العمل الإنساني ضمن أبعاد شمولية بغض النظر عن العرق أو الدين أو الانتماء السياسي، وحرصت في إطار ذلك على التنسيق والشراكة مع ما يزيد عن (500) مؤسسة حكومية ومؤسسة مجتمع مدني وجمعيات خيرية والقطاع الخاص الأردني، وما يزيد عن (129) هيئة ومنظمة دولية، ما أدى لتطوير أدواتها وبرنامجها وأتاح لها تقديم خدماتها ومساعداتها الإغاثية للعديد من المجتمعات المتضررة في النزاعات والكوارث الطبيعية، فضلاً عن إسهاماتها في مكافحة الفقر والجهل والأمية في هذه المجتمعات.   وباتت "الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية" بفضل إنجازاتها الخيرية في العشرات من الدول على مستوى العالم، تعكس المكانة المتقدمة والصورة الإنسانية المشرقة للدولة الأردنية، من خلال إبرازها لتضامن الشعب الأردني وتعاطفه مع جميع الشعوب المنكوبة في أرجاء العالم.   ومع تنوع مشروعاتها إلا أن النصيب الأكبر من مساعدات الهيئة قد تمثل في قوافل الخير الإنسانية التي تتجه لأبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة للتخفيف من معاناة أهلها في ظل أوضاعهم وظروفهم المعيشية الصعبة.   وقد غذى الدعم الهاشمي للأشقاء في الأراضي الفلسطينية دور المؤسسات الأهلية بكافة تصنيفاتها، وعلى رأسها الخيرية، حيث ساهم في إلهامها روح المبادرة في توجيه الدعم لأشقائهم الفلسطينيين بشكل موازٍ لدعمهم مجتمعهم المحلي الأردني، كما عمل في الوقت ذاته على تأطير هذا الدعم وتوجيهه بالشكل الذي يحقق فائدته القصوى للجهات المستحقة للدعم في المجتمع الفلسطيني.   ولعل لجنة زكاة المناصرة الإسلامية للشعب الفلسطيني الحاصلة على ترخيصها من وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالمملكة الأردنية الهاشمية عام 1990 تمثل أحد النماذج لمؤسسات العمل الخيري المتناغم مع مسار الخير الهاشمي، والموجه للفئات الأكثر حاجة واستحقاقاً للدعم من أبناء الشعب الفلسطيني، لا سيما مع إعطائها فئة الأيتام الاهتمام الأبرز في مشاريعها الخيرية المختلفة إذا ما علمنا بأن هنالك 30 ألف طفل يتيم، يكفلهم أردنيون عبر اللجنة الكائن مقرها في قلب العاصمة عمان.   وللوصول إلى هذا الرقم المعتبر من الكافلين في ملفات اللجنة دلالة هامة تشير في أولى مؤشراتها على تأصل الخير وتجذره في المجتمع الأردني، ثم الصدقية العالية التي تتمتع بها اللجنة، خاصة وأنها تنتهج طرقاً متطورة في عملها تعبر عن مدى شفافيته من ضمنها فتح قنوات بين الكافل والمكفول، ليكون هذا الكافل على اطلاع دائم بأحوال المكفول من خلال رسائل تصله منه، إضافة لمعلومات أخرى كصوره ونتائج تحصيله الدراسي.   وتمضي اللجنة في عملها المنظم والمستند للدراسات والمعلومات إلى تنويع مشاريعها بحسب حاجة قطاعات أخرى في المجتمع الفلسطيني، حيث لامست بيدها جرح المقدسيين وسعت للمساهمة في معالجة أوضاعهم، في ظل الغرامات المفروضة على آلاف البيوت، والهدم المتواصل، بسبب عدم قدرة المقدسيين على دفع الغرامات، فضلاً عن مشروعات تبنت تنفيذها بشكل دوري كمشروع الإغاثة الطارئة وتفطير الصائم، والأضاحي، والحقيبة المدرسية، والطرد الغذائي، وغيرها من المشروعات.   من جانب آخر، تتعدد المؤسسات الأردنية الخيرية العاملة في الداخل الأردني كما تتعدد معها وسائلها وأدواتها الخيرية الإبداعية، لتتخذ خططاً إستراتيجية بعيدة المدى عبّرت عنها من خلال رؤيتها العميقة الساعية لتحقيق أهدافها على مستوى المملكة بأسرها، ويتضح ذلك بشكل جلي من خلال شعار "تكية أم علي" الذي رفعته منذ تأسيسها عام 2003 وتعمل على تطبيقه تحت عنوان "أردن خالٍ من الجوع"، حيث سعت إلى تقديم الدعم الغذائي المستدام من خلال الطرود الغذائية والوجبات الساخنة وتوفير الإعانات الإنسانية الغذائية للفقراء والمحتاجين في الأردن.   وتنتهج التكية أنماط العمل الخيري العصري القائم على التشبيك مع مؤسسات خيرية مختلفة لتنفيذ مشاريعها، ويظهر ذلك من خلال ارتباطها باتفاقيات شراكة إستراتيجية مع 209 جمعية ومؤسسة مجتمع محلي في كافة محافظات المملكة، لتتمكن بذلك من إفادة العدد الأكبر من الفقراء.   وتمتلك مؤسسات خيرية أردنية أخرى الفكر الخيري المتطور ذاته، بخبرات راكمتها على مدى سنوات طويلة منذ تأسيسها في سبعينيات القرن الماضي، حيث يظهر ذلك من خلال أهداف "الصندوق الأردني الهاشمي للتنمية البشرية" الذي أعلن ضمن أهدافه الحرب على الفقر، فضلاً عن العمل على التخفيف من الآثار السلبية للتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر على حياة الفقراء، فيما يؤكد الصندوق على لعبه دوراً داعماً وميسراً في عملية تمكين الفقراء واعتمادهم على أنفسهم.   وبلا أدنى شك، فإن تعدد المؤسسات الخيرية وتنوع عملها وبرامجها واهتماماتها، حتى وان تشابهت في أهدافها ومشاريعها في مراحل ما، فإنها تمثل حالة صحية من شأنها أن تؤدي دوراً تكاملياً مع القطاعات المجتمعية الأخرى، وفي الحالة الأردنية هنالك جهود خيرية تسعى لتكامل الأدوار بشكل كبير، حيث يتضح ذلك من خلال شراكاتها مع مؤسسات محلية وإقليمية وأخرى دولية لمعالجة إشكاليات وقضايا مجتمعية نتجت عن أوضاع اقتصادية كالفقر والبطالة، على سبيل المثال.   ونستخلص مما سبق بأن المؤسسات الخيرية الأردنية تسير بثبات تجاه دعم الشقيق الذي يرزح تحت الاحتلال، ويعاني على مدى عقود من الزمن شتى أصناف المعاناة، معتبرةً -في إطار وعيها الكبير تجاه قضايا أمتها وواجبها الأخلاقي والإنساني- بأن الجرح واحد، ما يستدعي ضرورة تقاسم رغيف الخبز، مستلهمةً دعمها من قيادة هاشمية كانت دائماً أول من يلبي النداء لنصرة أبناء الشعب الفلسطيني حين تشتد بهم الخطوب، فكان السخاء سمة عطائها دوماً من خلال مختلف أنماط المساعدات، من ضمن أشكال العطاء قوافل الخير، والمستشفيات الميدانية كالمستشفى الميداني في جنين بالضفة الغربية عام 2001 وقبله في رام الله، ثم في قطاع غزة، المشهود لطواقمها الطبية والتمريضية بالكفاءة والتفاني في معالجة المرضى، وتجسيدهم لدور رسل الإنسانية وتمثيل وطنهم وثقافة شعبهم النبيلة بأبهى صورها.   كما أن المؤسسات الخيرية والإنسانية الأردنية صاحبة خبرة كبيرة في استنهاض وحشد القدرات والإمكانيات على الرغم من شح موارد الوطن، إلا أنها تعرف جيداً ثراء روح المواطن الأردني، ونقاء فطرته، وأخلاقياته، لتقوم بنقله من دائرة المساعدات النقدية والعينية العاجلة إلى طور التنمية والتمكين للفئات المحتاجة داخل الأردن وخارجه.

   بقلم: الدكتور عصام يوسف (رئيس الهيئة الشعبية العالمية لدعم غزة)