مبادرات سلام في شرق عربي متصدّع

بقلم: ماجد كيالي

فجأة بات لدينا شبه مبادرة مصرية لإعادة تشغيل عجلة التسوية، بعد المبادرة الفرنسية، وبينما الأولى اقتصرت على مجرّد كلام مقتضب، عمومي وغير محدّد، ما يتعذر معه تسميتها مبادرة، فإن الثانية انبنت على عقد مؤتمر دولي في باريس، بات من المتوقّع عقده في الثالث من حزيران (يونيو) المقبل.

وفي حين أن الأولى بدت وكأنها محملة بشبهة الاعتراض على الثانية، وهي الأسبق، وهو أمر لا يمكن فهمه، أو تبريره، فإن الثانية بدت خجولة وغير واضحة، ولا تحمل الثقل اللازم لفرضها، بدليل أن إسرائيل سارعت إلى رفضها. وقد يجدر بنا هنا الإشارة إلى الاحتفاء الإسرائيلي بدعوة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإقامة "سلام دافئ" مع إسرائيل، باعتبارها مخرجاً من المبادرة الفرنسية، حتى أن معلق الشؤون الخارجية في قناة التلفزة العاشرة في إسرائيل نداف إيال رأى في خطاب السيسي تعزيزاً لموقف إسرائيل عشية عقد مؤتمر باريس حول الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي.

فوق كل ما ذكرناه ثمة كثير من التساؤلات التي يمكن طرحها على هكذا مبادرات في هذه المرحلة. مثلاً، ما الحاجة حقاً إلى مبادرات التسوية علماً أن مسار العملية التفاوضية الجارية، بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي أثمرت اتفاق أوسلو (1993)، بات لها قرابة ربع قرن، طرح في غضونها عديد من الخطط الأخرى، من مثل: مفاوضات كامب ديفيد 2 (تموز - يوليو 2000) وطابا (2001)، في عهد الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، ثم خطة "خريطة الطريق" (2002)، وبعدها اتفاق الإطار في ما سمي مسار أنا بوليس (2007)، في عهد الرئيس السابق جورج بوش (الابن) وبعد ذلك المفاوضات التي أجريت إبان فترة حكم الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما (لا سيما التي بدأت في تموز 2013)؟

ثانياً، ما الداعي إلى هكذا مبادرات أو مفاوضات مع وجود عديد قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي المتعلقة بالصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، والتي تعالج مختلف جوانب هذا الصراع من منطوق المعايير الدولية، إذا لم يكن الهدف الفعلي الالتفاف على هذه القرارات وتخفيض سقف الحقوق الفلسطينية أو تجاوزها؟

ثالثاً، لماذا لم تتطرّق دعوة الرئيس السيسي، التي تلخّصت بتوفير الأمل للفلسطينيين والأمان للإسرائيليين، إلى "المبادرة العربية للسلام" التي كانت طرحت في القمة العربية في بيروت 2002، وظلت بمثابة مجرد بيان للذكرى بسبب الصلف والرفض الإسرائيليين، على رغم أنها تتحدث عن التطبيع مقابل السلام؟

رابعاً، الأهم من كل ما تقدم السؤال عن من الذي يضمن أن إسرائيل ستنفّذ المطلوب منها هذه المرة؟ أو من الذي سيضغط عليها من أجل ذلك؟ ثم هل المعطيات السائدة في المنطقة، وضمنها تصدّع المشرق العربي (دولتياً ومجتمعياً)، تشكّل عامل ضغط على إسرائيل للمضي في عملية التسوية، أم بالعكس، أي أنها تشكّل عامل تشجيع لها للتملّص من هذه العملية وفرض أجندتها على الفلسطينيين؟

ليس الغرض من طرح هذه الأسئلة الحطّ من العملية التفاوضية، لأن تلك العملية وصلت إلى الحضيض، وباتت أمثولة على كيفية التلاعب بالقضايا، وتغييب الحقوق، وذلك ليس بسبب التعنّت الإسرائيلي فحسب، إذ مع هذا ينبغي أن نحسب لا مبالاة المجتمع الدولي، ورياء الدول الكبرى، لاسيما الولايات المتحدة، وفوق هذين تهافت النظام العربي، وضمنه النظام السياسي الفلسطيني، الذي بذل تقديمات مجانية جمّة من دون أن يحصل على شيء حقيقي من إسرائيل، حتى على مستوى إتاحة دولة للفلسطينيين، في الضفة وغزة، أي في أقل من ربع فلسطين، ولو كانت منزوعة من السلاح!

على ذلك فإن الغرض من إثارة هذه الأسئلة التذكير إلى أن هذا ليس زمن التسوية، وأن هذه المبادرات تأتي لمجرد التورية، أو لتقطيع الوقت، أو للعب السياسي، لا أكثر من ذلك، لاسيما في هذه المرحلة، التي تشهد تصدّع مجتمعات ودول المشرق العربي.

بيد أن هذه الحقيقة لا تعني أنه لا يمكن أن يحصل شيء ما على صعيد العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إلا أن حصول أي شيء، على هذا الصعيد، لا يمكن التعاطي معه بوصفه جزءاً من عملية تسوية حقيقية، ولو نسبياً، إذ إن ذلك سيكون في إطار إعادة تشكيل المنطقة، وبخاصة المشرق العربي، أي كجزء من التسويات التي يمكن أن تحصل لتحقيق نوع من الاستقرار.

في الواقع، وكما تحدثنا مراراً، فإن إسرائيل باتت هي المستفيد، وربما المستثمر، الأكبر في ما يحصل من تحوّلات وتطوّرات واضطرابات في محيطها، وضمن ذلك تفكّك الدول والمجتمعات، وهي التي اشتغلت طوال السنوات السابقة وفق منطق: "عرب يقتلون عرباً"، وأنه لذلك يجب ترك الأمور على هذا النحو، لاستنزاف المنطقة وتكريس التفكّك والعطب فيها، وهذا ما يفسّر عجز الدول الكبرى عن التوصل إلى إيقاف هذا التصدّع على رغم أنه بات يؤثر في الدول الأوروبية، كما يفسّّّر ذلك لا مبالاة الولايات المتحدة إزاء ما يحصل للسوريين و (العراقيين).

الفكرة هنا أن الفلسطينيين يستنزفون قواهم فقط في البحث عن تسوية لا يمكن أن تحصل البتّة في هذه الظروف، وفق رؤاهم لحقوقهم ولمصالحهم، وأنها إن حصلت فهي ستكون على حساب هذه الحقوق والمصالح، كما على حساب رؤية الفلسطينيين لذاتهم. وعلى ذلك فإن البديل الأنسب للفلسطينيين، في ظل هذه المعطيات، الذهاب نحو معادلات سياسية جديدة تتأسس على مراجعة نقدية ومسؤولة لتجربتهم السياسية والكفاحية، وضمن ذلك مراجعة تجربتهم في المفاوضة والانتفاضة، وفي التسوية والعمل المسلح، وإعادة بناء كياناتهم وإجماعاتهم السياسية، لأن الأساس بالنسبة إليهم اليوم بات يتعلق بوقف نزيف مجتمعاتهم، واستعادة اعتبارهم لذاتهم كشعب، بعد كل هذا التدهور.

الفكرة، أيضاً، أن إسرائيل في هذه الظروف، أي في ظل غياب الضغط الدولي والعربي عنها، وتصدع المشرق العربي، وفي ظروف التحول نحو اليمين فيها، مع ملاحظة مجيء شخصية مثل أفيغدور ليبرمان، وهو يميني متطرف، ومستوطن جديد، إلى وزارة الدفاع، لا تبدو معنية ولا بأي شكل بتسوية منصفة مع الفلسطينيين، ولا بحدودها الدنيا. وهذا أوري سافير (أحد أهم صانعي اتفاق أوسلو) يتحدث صراحة عن ذلك، في مقال له عنوانه: "لا يوجد شريك للسلام في إسرائيل"، يقول فيه: "الكذبة الكبرى لحكومة نتانياهو هي عبارة "لا شريك فلسطينياً" للتسوية. فرئيس الوزراء يدعو الرئيس عباس إلى محادثات مباشرة، فورية وبلا شروط مسبقة كل يوم تقريباً. وفي الوقت ذاته فإنه يوسّع المستوطنات كي يمنع على الأرض كل إمكانية لإقامة دولة فلسطينية، ويثقل يد الاحتلال بوسائل قمع عسكرية واقتصادية، ويعلن بصوت عال أن في ولايته لن تقوم دولة فلسطينية أبداً. فعلى ماذا يفترض بأبومازن أن يجري معهم مفاوضات؟ في أقصى الأحوال على أن يتولى رئاسة بلدية رام الله ... المشكلة هي أن حكومة نتانياهو غير مستعدة لأي تسوية تقوم على أساس المساواة بين دولتين، في ظل الاعتراف المتبادل والمتساوي بين الحركتين الوطنيتين ومفهوم أمنى إقليمي براغماتي. وهي تسعى إلى رؤيا كابوسية، انطلاقاً من فكر عنصريّ وخطير. لا يوجد شريك في القدس". ("معاريف"، 17/5)

الفكرة، أخيراً، أن الدول الغربية، ولاسيما الولايات المتحدة الأميركية، هي التي تتحكّم بمسار التسوية، وفي كل معادلات الشرق الأوسط، بحكم غياب النظام العربي، أو عجزه، أو قلة فاعليته. وعليه فإن الولايات المتحدة الأميركية هي الأكثر قدرة على التأثير في إسرائيل، بهذا الشكل أو بذاك، وكما هو واضح فإن هذه الدولة لا تفعل شيئاً يضر بمصالح إسرائيل ورؤيتها لذاتها، حتى لو كانت تتعارض مع قيم الولايات المتحدة كدولة مواطنين، وهذا ما يفسر قبولها الشرط على الفلسطينيين الاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، أي على أساسي ديني!

والحال فإن الولايات المتحدة اليوم تتعاطى مع منطقة المشرق العربي، بوصفها بمثابة "رجل مريض"، ومن باب أنها تصلح كمنطقة لإدارة الصراع، وضمنه استنزاف وإضعاف روسيا وإيران وتركيا، وعدم إتاحة وضع من الاستقرار في سورية والعراق قد يشكل تهديداً لإسرائيل على المدى المنظور، إذ لا شيء يفسر هذا العزوف الأميركي عن الحسم أو اللامبالاة إزاء انخراط روسيا وإيران عسكرياً، وفي شكل مباشر، في الصراع الجاري في سورية والعراق غير ذلك.

المعنى أن كل التحركات والمواقف الجارية الآن تغدو بمثابة نافذة فرص لإسرائيل لفرض أجندتها على الفلسطينيين، وفرضها كفاعل رئيسي في الإقليم، وكل أحاديث عن التسوية، أو المبادرات، لا يصب في هذا الاتجاه، لا يمكن للولايات المتحدة ولا لإسرائيل التعامل معه، أما بخصوص السلام، العادل والشامل، فهذا بات حديثاً للتسلية أو لتقطيع الوقت لا أكثر، فما هو هذا السلام في شرق عربي متفجر؟!

 

ماجد كيالي

* كاتب فلسطيني