وأخيرا حسم الشعب البريطاني أمره بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وذلك بعد ترقب وانتظار لما ستؤول إليه نتائج هذا الاستفتاء، هذا الترقب لم يكن فقط من دول الاتحاد، بل من قوى عالمية وتكتلات إقليمية في أماكن أخرى من العالم. يعود هذا الترقب لما يشكله الاتحاد الأوروبي من أهمية كحجر الأساس في بناء النظام دولي، وإلى أهمية بريطانيا كقوة دولية وعضو رئيسي في الاتحاد يملك مكانة دولية مهمة وقدرات وطاقات تساهم في صنع القرار على المستوى العالمي.
يعتبر هذا الاستفتاء هو الاستفتاء الثاني الذي يمارسه الشعب البريطاني على بقاء او انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فقد سبق وأن وصوّت في العام 1975 في استفتاء عام بأغلبية الثلثين بالبقاء داخل الجماعة الأوروبية بعد انضمام بريطانيا إلى عضوية ما كان يعرف حينها بالجماعة الأوروبية عام 1973 قبل أن تتطور وتصل إلى ما يعرف اليوم بالاتحاد الأوروبي والذي يضم في عضويته 28 دولة من دول أوروبا.
هذا التصويت على الانسحاب جاء بعد دعوة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون الشعب البريطاني إلى الاستفتاء حول بقاء أو انسحاب بريطانيا من عضوية الاتحاد، وذلك بعد الجدل الذي ثار حول مستقبل بريطانيا سواء على مستوى الأحزاب السياسية أو على مستوى الشارع، ليحسم الشعب البريطاني أخيراً خياره بالانسحاب بنسبة بسيطة للغاية قاربت النصف مليون صوت فقط، ما يعني إن كان هناك قسماً من الشعب البريطاني يفضل الانسحاب من منظومة الاتحاد الأوروبي، فإن هناك قسم آخر وإن كان أقل بنسبة طفيفة يفضل البقاء داخل الاتحاد، مما يدل على انقسام الشعب البريطاني بين قسم يبحث عن هويته الوطنية المستقلة بأبعادها الاقتصادية والسياسية والثقافية والتاريخية والذي يرى أنها قد تم صهرها وذوبانها داخل بوتقة الاتحاد الأوروبي، وأن بريطانيا لم تعد تلك الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ولا ذات القوة صاحبة التأثير في القرار العالمي بل أنها باتت رهينة لسياسات الاتحاد الأوروبي الخارجية، والتي ظهرت جليا في موجات الهجرة التي اجتاحت أوروبا أخيرا مما جعل البريطانيون يبدون انزعاجهم من هجرة الآلاف من اللاجئين وخاصة من منطقتي الشرق الأوسط وشرق أوروبا، حيث تمثل بريطانيا حلما ومقصدا لكل من تراوده أحلام الهجرة إلى أوروبا، خاصة وأنها تسعى إلى أن تضع قوانينها الخاصة التي تحميها وألا تكون مرتبطة بسياسات الاتحاد الأوروبي في هذا المجال، وبين جزء يرى أن بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يعزل بريطانيا عن محيطها الأوروبي وأهما العزلة الاقتصادية، فطبقا لدراسات اقتصادية فإنه من المتوقع أن يؤدي الانسحاب إلى حدوث انكماش في الاقتصاد البريطاني يتراوح ما بين 6% - 9.5%، بالإضافة إلى تضرر التجارة الخارجية البريطانية حيث أنه من المتوقع أن تتقلص الصادرات البريطانية إلى دول الاتحاد الأوروبي، وتهديد بعض الشركات العالمية بتصفية أعمالها في لندن خاصة وأن معظم شركات المال العالمية أصبحت تتخذ لندن مقرا لها والتوجه إلى أماكن أخرى في العالم.
أما على المستوى الخارجي فهناك من يعارض أو يؤيد بقاء بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي، ولعل أبرز المعارضين للانسحاب هي الولايات المتحدة الأمريكية، فبريطانيا من جهتها تفضل الاتجاه جهة الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الموقف الأمريكي لم يكن يصب في هذا الاتجاه، حيث لم يرحب الرئيس أوباما بهذه الخطوة، دفعت الرئيس الأمريكي خلال زيارته إلى لندن بدعوة البريطانيين لرفض الخروج، قائلا "في حال كانت البلدان القريبة منكم والتي تهتم بكم والبلدان التي تتعاونون معها وتقيمون معها علاقات خاصة، في حال كانت ترى أنه من الأفضل لكم البقاء في هذه العلاقات مع أوروبا، فلا بد من إيلاء الاهتمام لذلك"، في سابقة هي الأولى من نوعها والتي اعتبرتها المعارضة تدخلا سافرا في الشأن الداخلي للبلاد.
كما تبدي واشنطن قلقها من خروج حليفها الأكبر من الاتحاد الأوروبي خوفا من انفراط عقد الاتحاد، وانعكاس ذلك بشكل سلبي على استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية، وانهيار أو على أقل تقدير ضعف التحالفات التي تعتمد عليها السياسة الأمريكية، وفقدان واشنطن أي تأثير لها على السياسات المختلفة للاتحاد في ظل تراكم الأحداث المثيرة للقلق والتي يمكن أن تؤثر على مستقبل الاستقرار والأمن في المنطقة والعالم.
هذا بالإضافة إلى العامل الاقتصادي الذي تسعى من خلاله الولايات المتحدة إلى عقد شراكة اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، لتعزيز نفوذها في المنطقة، وخروج بريطانيا من الاتحاد يمكن أن يؤثر على هذه المساعي، مما يجعل الولايات المتحدة الأمريكية تشدد على ضرورة بقاء بريطانيا داخل منظومة الاتحاد لما تعتبره بمثابة كارثة سياسية واقتصادية للولايات المتحدة ومحاولة التخفيف من تداعيات هذا القرار.
أما أوروبيا فقد حذر وزير المالية الألماني فولفجانج شويبله من أن خروج بريطانيا سوف يحرمها من مزايا عضوية السوق الأوروبية الموحدة التي تضمن حرية انتقال الأشخاص والسلع داخل أوروبا، وأن على البريطانيين أن يعلموا أن ثمن الخروج من الاتحاد هو الخروج من أكبر منطقة تجارة في العالم بما يحمله ذلك من عواقب على الوظائف وحركة التجارة، بالإضافة إلى أن عدم تأثر الاقتصاد البريطاني حال خروجها من الاتحاد يعد ضربا من ضروب المستحيل، كما أعرب عن مخاوفه من أن يكون لخروج بريطانيا تأثير معد على باقي الدول الأعضاء خاصة تلك التي ترتبط بعلاقات قوية معها.
في حين لا يخفي المحللون أن هناك أيضا مستفيدون من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولعل المستفيد الأول هو دولة لوكسمبورغ، وإن كانت سلطات هذا البلد تتحدث في الموضوع بصوت خافت، فمن المتوقع أنه في حال مغادرة بريطانيا للاتحاد فستتحول إلى أول سوق مالي في أوروبا يفتح شهية المصارف العالمية.
أما على الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فقد تعاملت إسرائيل مبكرا مع فرضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولعل التحذير الذي أصدره معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي مطلع هذا العام مرجعه الخشية من أن تقوم دول أوروبية أخرى داخل الاتحاد الأوروبي بما قامت به بريطانيا، ومصدر ذلك هو التخوف الإسرائيلي من التعامل مع الاتحاد الأوروبي بشكل منفرد وليس بالشكل الجماعي وذلك في إطار الشراكة وسياسة الجوار الأوروبية والتي من أهم أهدافها هو التعاون في مجال مكافحة الإرهاب والتي تدعي فيها إسرائيل بأن لديها من الخبرة الكافية في هذا المجال لا سيما بعد انضمام أعداد كبيرة من الأوروبيين إلى تنظيم داعش وعودتهم إلى بلادهم بفكرهم وايديولوجيتهم ومحاولة تطبيقها في أوروبا بعد انتهاء مهامهم في منطقة الشرق الأوسط، مما يشكل خطرا كبيرا على الأمن في أوروبا.
من جانب آخر فقد نظمت بعض التنظيمات الإسرائيلية حملات إعلامية وحثت آلاف الداعمين لإسرائيل في بريطانيا، بما في ذلك المجموعات المناهضة للاتحاد الأوروبي، للتصويت على انفصال بريطانيا، زاعمة أن الاتحاد الأوروبي يتعامل بطريقة غير سليمة مع إسرائيل، وأن بريطانيا من خلال وجودها داخل الاتحاد الأوروبي تقوم بتحويل مئات الملايين من اليورو إلى الفلسطينيين الذين يدعمون منفذي العمليات المسلحة ضد الإسرائيليين، كما قام الاتحاد الأوروبي بحملة لوسم منتجات المستوطنات الإسرائيلية، ويمنح المئات من المنظمات غير الحكومية أموالا ومنحا مالية من موازنة الاتحاد، في سبيل خوضها معارك قانونية وقضائية ضد إسرائيل.
في المقابل فلم يصدر أي رد رسمي من قبل الفلسطينيين انتظارا لما ستسفر عنه نتائج الاستفتاء رغم أهمية هذا الاستفتاء بالنسبة للفلسطينيين ونتائجه التي ستنسحب بالتالي على قضيتهم الوطنية، فالنكبة الفلسطينية هي بالأساس صنيعة بريطانية بالتعاون مع القوى الاستعمارية الأخرى بالعالم، وهي من أكبر المؤيدين للسياسات الإسرائيلية، ووجودها داخل الاتحاد الأوروبي كان يلزمها باتباع السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي تجاه القضية الفلسطينية، أما وقد أصبحت خارجه فإن الفلسطينيين إن لم يكن قد خسروا صديق فإن إسرائيل قد ربحت حليفا.
إعداد / حسن نبهان سلامة