انقسم المعلقون حول توصل تركيا وإسرائيل إلى اتفاق شامل من شأنه تطبيع العلاقات المتوترة بين البلدين لنحو ست سنوات إلى قسمين أساسيين،
قسم وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأنه خائن للقضية الفلسطينية باع قطاع غزة وباع حلفاءه من حركة حماس، وأعاد العلاقات الإستراتيجية مع الكيان الصهيوني كسابق عهدها، وتاجر بالقضية الفلسطينية لتعطيه شعبية عندما كان يحاول أن يتوج نفسه سلطانا للدولة العثمانية بطبعتها الجديدة.
وهناك قسم ما زال يحيي أردوغان بصفته أعظم قائد معاصر للأمة الإسلامية وأنه حقق في مفاوضاته مع إسرائيل ما لم يحققه أحد، وأن الأمر لو تعلق بتركيا وحدها لوقع اتفاقا بعد أن قدمت إسرائيل الاعتذار عن مجزرة نافي مرمرة. وسأحاول في هذا المقال أن أقدم رؤية موضوعية للاتفاق في ظل الظروف الجديدة والمستجدة، بعيدا عن المواقف الحادة، التي تصل إلى حد الغوغائية أحيانا، والتي تميز بها بعض الكتاب الذين ينظرون إلى الأمور من عدساتهم السياسية واصطفافاتهم العرقية أو الطائفية، بدل تقديم نقد محايد يرى الأمور بموضوعية فيعطي الاتفاق ما له من إيجابيات ويظهر ما فيه من عيوب. وكي نفهم الاتفاق لا بد أن نقارن بين لحظتين تاريخيتين.
حادثة مرمرة وزمن الازدهار التركي
حدثت المواجهة بين قوات الأمن الإسرائيلية وأسطول "مرمرة الزرقاء" يوم 29 مايو 2010. كانت تركيا آنذاك في قمة إنجازاتها السياسية والاقتصادية، فقد بلغت من التقدم الاقتصادي ما وضعها في موقع القوة الاقتصادية السابعة عشرة في العالم بفائض في الميزانية يعادل 250 مليار دولار، وحجم إنتاج محلي يعادل الناتج الإجمالي لمجموع الدول العربية باستثناء النفط. كانت علاقة تركيا مع دول الجيران في أفضل حالاتها، فقد وقعت مع جارتها الأقرب سوريا 36 اتفاقية تعاون، من بينها عدد من المعاهدات الأمنية، وألغيت بينهما التأشيرات، وحصلت تركيا على عقود بمليارات الدولارات في كل من سوريا والعراق وليبيا والسعودية وغيرها. كما أن علاقاتها مع إيران كانت في أفضل حالاتها، خاصة أنها لعبت مع البرازيل دورا مهما في تبريد الأزمة بينها وبين الولايات المتحدة، أضف إلى ذلك أن علاقاتها مع إسرائيل كانت أيضا قوية، لدرجة أن أردوغان، وبتأييد من الرئيس السوري بشار الأسد، شرع في وساطة سرية بين سوريا وإسرائيل كادت أن تتوج باتفاق سلام بتاريخ 23 ديسمبر 2008، إلا أن المعركة على غزة بعد أربعة أيام أفشلت تلك المحاولة. كانت العلاقات مع روسيا في قمتها والملايين من الروس يتدفقون على تركيا ووصل عددهم سنويا 29 مليونا. الوضع الداخلي في تركيا كان يتمتع بالاستقرار من جهة وبالازدهار الاقتصادي من جهة أخرى، فقد بدأت الأحزاب الكردية تشارك في الحياة السياسية بشكل واسع وحصلوا على 20 مقعدا في انتخابات 2006 و36 مقعدا في انتخابات لاحقة عام 2011. حزب العدالة كان يعيش أزهى أيامه ويتمتع بشعبية عالية لدرجة أن أردوغان استطاع أن يلغي دور العسكر في السياسة وأخضع المحكمة الدستورية حليف العسكر إلى القيادة المدنية.
لقد حولت حادثة إهانة شيمعون بيريز في منتدى دافوس في 29 يناير 2009 أمام تخاذل عمرو موسى، أردوغان بطلا في عيون العرب، ليس بالضرورة لأنه بطل، بل لأن العرب كانوا يبحثون عن موقف فيه شيء من كرامة وعزة نفس بعد حرب غزة فوجدوه في أردوغان.. لذلك لم يكن أردوغان آنذاك بحاجة إلى إسرائيل ولا تجارتها، ولم يكن في وضع ليتحمل صلفها وقلة أدبها، فقد أرسل أسطول مرمرة الزرقاء لنقل المساعدات الإنسانية إلى غزة عن طريق البحر، بعد أن أوصد المخلوع حسني مبارك الأبواب البرية، ونزلت هراوات أمنه على قوافل جورج غالاوي، وأعاد سفينة المساعدات الأردنية التي انطلقت من العقبة. فكانت المذبحة التي تعرض لها رسل السلام الذي ضموا مجموعة رائعة من رجال ونساء وناشطين وصحافة يقدر عددهم بـ 750 شخصا، غالبيتهم أتراك من 37 بلدا من بينهم رموز مهمة مثل رائد صلاح وحنين الزعبي وأنيتا غروث من البرلمان الألماني ووليد طبطبائي من الكويت ووائل السقا من الأردن وغيرهم الكثير. فما كان من إسرائيل إلا أن هاجمت الأسطول في المياه الدولية على بعد 75 ميلا بحريا وبطريقة غدر لئيمة فقـتل على أثر الهجوم المباغت عشرة أتراك من بينهم تركي أمريكي.
على إثر الجريمة سحبت تركيا السفير وتوترت العلاقات بينهما وأعلنت تركيا من أول يوم أن لها شروطا ثلاثة للمصالحة: الاعتذار والتعويض ورفع الحصار عن غزة. وبدأت الوساطات تروح وتجيء لإعادة المياه إلى مجاريها، ولكن أردوغان أصر على إذعان إسرائيل للشروط الثلاثة كل هذا الوقت.
التطورات اللاحقة وصولا إلى اتفاقية التطبيع
تمنعت إسرائيل طويلا في قبول أي من الشروط أعلاه، خاصة رفع الحصار بعد أن أصبح محكما بعد الانقلاب الدموي الذي أوصل اللواء عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في مصر، وكان من أولى إنجازاته أن جرف منطقة الحدود مع غزة وهدم جميع الأنفاق وأغلق المعبر الوحيد إلى مصر بشكل شبه دائم. لكن بعد وساطة من الرئيس الأمريكي أوباما اتصل نتنياهو برئيس الوزراء أردوغان هاتفيا واعتذر رسميا له بتاريخ 22 مارس 2013. وللعلم فقط فقد رفض نتنياهو أن يقدم لمصر اعتذارا، بل التعبير عن الأسف فقط على مقتل ستة جنود في 18 أغسطس 2011 داخل الحدود المصرية بدون أي مبرر أيام المشير الطنطاوي ما أثار الشعب المصري فحاصروا السفارة واقتحموها.
فما هي الظروف التي أدت بتركيا للتنازل عن شرط رفع الحصار عن غزة بعد ست سنوات من الحادثة؟
تركيا الآن متورطة في حربين أو ثلاثة مع الأكراد ومع تنظيم الدولة "داعش" ومع الجماعات الإرهابية التي كان آخر هجماتها الدموية يوم الثلاثاء الماضي في مطار أتاتورك. وتركيا متورطة في الملف السوري، وقد خدعتها الولايات المتحدة فمن جهة حولت تركيا إلى ممر للمتطرفين والإرهابيين للعبور إلى سوريا، ومن جهة أخرى وقفت مع أعداء تركيا التاريخيين من حزب العمال الكردستاني وقوات الحماية الكردية وحزب الاتحاد الديمقراطي. كما أن مشروع ديمرطاش الانفصالي يهدد، إن تمادى في غيه بدعم من قوى الجوار، أن يحول تركيا إلى سوريا ثانية وينذر بحرب أهلية يدفع الجميع ثمنها. وتركيا الآن تستضيف نحو مليونين ونصف المليون لاجئ سوري وتتكفل بتكاليف إقامتهم، حيث صرفت عليهم ما يزيد عن عشرة مليارات دولار. تركيا الآن على علاقات سيئة مع مصر وإيران والعراق وروسيا والاتحاد الأوروبي وألمانيا. وتركيا تراجعت اقتصاديا وانخفضت القيمة الشرائية لليرة من 1.2 للدولار عام 2010 إلى 2.89 الآن. وتركيا تتعرض لضغوط من كل جانب، بل اكتشفت أن فتح الله غولن الذي انشق عن أردوغان يتآمر عليه ويبني تنظيما داخل قوات الأمن ورجال القضاء والإعلام. وكان رد أردوغان التضييق على حرية الصحافة واعتقال الصحافيين واتهام غولن بتدبير انقلاب عليه. حزب العدالة والتنمية تعرض لضربة موجعة في انتخابات يونيو 2015 ولم يتمكن من تشكيل حكومة، فما كان منه إلا أن أعاد الانتخابات في شهر نوفمبر ليتمكن من تحسين شروط تشكيل الحكومة. شخصية مهمة في الحزب مثل أحمد داود أوغلو اختلف مع أردوغان فقفز من سفينته وعاد إلى حياته العادية. وتركيا تتعرض لضغوط خارجية والتلويح بإثارة مسألة "الإبادة الجماعية للأرمن" كلما دعت الحاجة، كما فعلت ألمانيا مؤخرا وفرنسا في عهد ساركوزي العنصري والسويد وغيرها. كما أن إسقاط الطائرة الروسية بتاريخ 24 نوفمبر 2015 أدى إلى توتر العلاقات بشكل كبير وإلغاء العديد من العقود ووقف تدفق ملايين الروس للسياحة في تركيا ما فاقم مشكل تركيا.
ملاحظات حول اتفاقية التطبيع
باختصار ينص الاتفاق الذي أعلن عنه يوم 26 يونيو على تطبيع العلاقات بين البلدين وتبادل السفراء وعدم العمل ضد بعضهما بعضا في المنظمات الدولية. وتقوم إسرائيل بدفع مبلغ 21 مليون دولار لضحايا سفينة مرمرة، وتسقط تركيا الدعاوى المرفوعة ضد ضباط إسرائيليين في محاكم إسطنبول، ويعود التعاون الأمني والعسكري بين البلدين، ويعقد البلدان محادثات حول مد أنابيب الغاز من إسرائيل إلى تركيا. أما النقطتان اللتان جرى تقديم تنازلات فيهما من الطرفين هما موضوع رفع الحصار عن غزة كشرط للتطبيع الكامل مقابل الشرط الإسرائيلي وهو طرد كل قادة حماس من تركيا ووقف نشاطاتهم المعادية لإسرائيل.
الطرف التركي قدم تنازلا كبيرا في موضوع التخلي عن رفع الحصار الكامل عن قطاع غزة، مقابل السماح بإيصال المساعدات الإنسانية والمعدات إلى قطاع غزة عن طريق ميناء أسدود بعد تفتيشها من قبل الجيش الإسرائيلي. كما تسمح إسرائيل لتركيا بإقامة محطة توليد كهرباء في القطاع ومحطة تحلية مياه بالتعاون مع ألمانيا وبناء مستشفى جديد.
وقد تراجعت إسرائيل عن مطلبها بطرد كافة قيادات حماس من تركيا ووقف أنشطتها بمن فيهم صالح العاروري الذي أعلن من إسطنبول مسؤولية حماس عن خطف المستوطنين الثلاثة من مستوطنة قرب الخليل في 13 يونيو 2014.
قد لا تكون اتفاقية مثالية بالنسبة للفلسطينيين، خاصة سكان قطاع غزة ولكن مقارنة بين المفاوضات التي خاضتها مصر وأنتجت كامب ديفيد، والمفاوضات التي خاضها الفلسطينيون وتمخضت عن أوسلو، والمفاوضات التي خاضها الأردن وانتهت باتفاق وداي عربة، نجد أن هذا الاتفاق، رغم محدوديته، إلا أنه أقرب إلى نموذج المفاوضات الإيرانية مع مجموعة الخمسة زائد واحد، الذي لا يعني تحقيق كل ما يريده كل طرف بل يضطر نتيجة المعطيات وموازين القوى أن يقدم بعض التنازلات المهمة من أجل الخروج من مأزق مزدوج يستطيع كل طرف أن يدعي أنه أنجز معظم شروطه.
إن توقيع الاتفاق في هذا الوقت واتصال أردوغان بالرئيس الروسي بوتين للاعتذار عن إسقاط الطائرة في اليوم نفسه، يعني أن هناك تغييرا جذريا في سياسة أردوغان واعترافا ضمنيا بالوقوع في العديد من الأخطاء، لعل هذا التغيير ينعكس إيجابيا على تسهيل إيجاد حل للأزمة السورية. بقي أن نذكر جميع القراء المنتصر لأردوغان أو الناقد له أنه رئيس لتركـــــيا وصــل إلى موقعه بالانتخاب الحر من قبل شعبه وليس عن طريق الدبابة أو عن طريق التوريث.
د.عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي