- النّصّ:
فاطمة عادت..
وعادت بوجهها المعنى
إلى استفهام فصحاها...
فاطمة عادت...
وعادت بمجرى الوقت
من نزنزة طلقتها الأولى
إلى انتفاضاتها الأحلى..
إلى عودتها المطلقة
فاطمة عادت
وعادت تقول:
قل أنّك منّي إليّ فإنّي
لـــ: " ياء " و"واو" و " سين" و "فاء "
بُعثت من شهقة الطّين فيك
ومن وحدة الرّوح أسمى سماء
ليمتدّ منك اتّصالي بغيبي
ويمتدّ منّي سعير النّداء..
فأنا امرأة الدّم عدت..
وأنا الغائب.. الغائب
وأنا الحاضر.. الغائب
وأنا الآتي..الغائب
عاشقي أنت..
تفاصيل تكويني..
منفذ وحيي..
دمي / نزيف من جرح مائك
فكرتي / وهج من نور طينك
ومضغة من شبه الفكرة ومنك
كلّي منك
أنت بدء منتهاي..
//
فاطمة عادت...
وعنك وعنهنّ لمّا هتفن
وعنك وعن نوقهم حين سادت
وعنك وعن جمعهم أنّك قلت أن
شذى الحلم فاطمة الكلّ عادت
وعادت تقول:
ستترأى أيّها القادم
على ضفة النّهر العظيم
كانّك سواك...
تتطهّر برضاب الرّمل
تتلو صمت الحجر..
تعانق موسيقى الرّقرقة
تذوب بأنثى الطّين
تلتمس ما تيسّر من ظمأ الرّيّ
ومن حكمة فاطمة - حكمتي
تنتبذ ركناً أقصى
داخل ملكوت النّهر
تصطفي من طقسك..
لوناً ما.. لروح الماء
وطعماً ما.. لطينة الماء
ورائحة ما.. لنسل الماء
تنفخ في البعض من البعض
تنشد جمر البوح
إلى أن أتوّجك إله عشق
على عرش مملكة الماء..
//
فاطمة عادت..
وعادت تقول..
أنا الأصل والفرع والكون طلق
لينبوع بعضي من الكائنات
أنا الكأس والتبغ إذ تشتهيني
وغيب من الشّدو والأغنيات
أنا أنت معنى وأنت السؤال
وصلصال ريحي وريح الفتات..
ستسأل: ما العشق؟
وأقول : هو أن ترى الله فيّ
وفي صورة ما ترى..
ستسأل: ما الحزن؟
وأقول: هو أن تحترق فيّ
وفي كلّ العناصر تماماً
إلى حد الذّوبان
ما بين استحالة الرّماد وممكن النّار..
ستسأل: ما الحياة ؟
وأقول: هو أن تعصر الزّمان في قدح
وأن تعصر العنب في قدح
وأن تظلّ تسكر من ذاك وذا..
حتّى تموت الحياة
وتحيا لي أبداً..أبدا
ستسأل: ما الموت؟
وأقول :
هو أن تنفصل روحك عن جثتي
لتتّحد بجثّة سواي
فاطمة عادت..
---------------
(*) من ديوان - صلصال الريح -
- القراءة:
"قدر الشّاعر أن ينفذ عميقاً إلى تفاصيل الذّرات ويكاشف حرن العوالم الموصدة، ويشرق من وراء أنظمة الحواس وعليها مرتّباً طقس الاحتمالات على مقاس ما في ذات الماهية، دون طمع في ما ستبشّر به القابلة ودون فجيعة. وما - حديث الحمرة - إلّا دربة منه." (يوسف الهمامي).
في عوالم الشّعر تنكشف الحقيقة، ومنها يتسرّب الجمال بثوب الفكر المتجدّد والمتألّق. قد لا تكون مهمّة الشّاعر تحليل الواقع أو توجيه القارئ أو إرشاده، إلّا أنّه بخطوطه الجماليّة يرسم له سبل البحث، ويحوك له دروباً قد تمكّنه من ولوج ذاته ليلقى أناه. وفي قصيدة "فاطمة"، يشرّع الشّاعر يوسف الهمامي أبواب ذاته ويدعونا لقراءة يوسفيّته العميقة، مبيّناً لنا حقيقتها الوجوديّة.
- "عادت فاطمة":
بُنيَت القصيدة على عبارة (عادت فاطمة) الّتي تكرّرت سبع مرّات وعلى الفعل (عادت) المكرّر اثنتي عشر مرّة. وبذلك تشكّل هاتين العبارتين (عادت فاطمة/ عادت) عنصريْن أساسيّين في القصيدة، يُحكم الشّاعر استخدامهما ليكون محور القصيدة فاطمة والعودة.
فاطمة/ الاسم الرّمز الّذي سيقودنا إلى الشّاعر نفسه، إذ إنّه على نورها تنكشف له حقيقة ذاته، ويتجلّى معناه الإنسانيّ العميق. وبالتّالي سيرتبط اسم فاطمة بشكل وثيق بكينونة الشّاعر. إلّا أنّنا نستشفّ التّمهيد لهذا الرّابط بينهما، أو بمعنى أتمّ، الشّركة الوجوديّة. ففي القسم الأوّل من القصيدة، يمهّد الشّاعر لعودة فاطمة، وكأنّي به يطرح فلسفة شعريّة وجوديّة، تعرّفنا على حضور الحقيقة بذاتها حتّى تتجلّى وتتّحد بالكينونة الإنسانيّة:
فاطمة عادت..
وعادت بوجهها المعنى
إلى استفهام فصحاها...
فاطمة عادت...
وعادت بمجرى الوقت
من نزنزة طلقتها الأولى
إلى انتفاضاتها الأحلى..
إلى عودتها المطلقة
فاطمة عادت.
يشكّل المطلق في عودة فاطمة حتميّة الحقيقة، وبلوغ شاطئ الأمان. ولعلّ الشّاعر يوسف الهمامي يعبّر بالعودة عن إدراكه لهذه الحقيقة. فالعودة هنا لم تعقب غياباً بل هي تعبير عن وصول. والوصول يسبقه انتظار وترقّب. وفي فكر الشّاعر تأكيد لبلوغ المراد المرجو، إذ إنّه لا يذكر غياب فاطمة واقعيّاً وإنّما يذكر العودة رابطاً إيّاها بالهدف. (فاطمة عادت../ وعادت بوجهها المعنى). ولمّا ارتبطت العودة بالمعنى انتفى مبدأ الغياب ليحلّ مكانه مبدأ نقص المعرفة الّذي سيكمل بالعودة. فيمسي المعنى الأصيل للعودة ظهور الحقيقة وانكشافها.
- "فاطمة الوحي والموحى بها":
(وعادت تقول/ قل). بين الشّاعر وفاطمة لغة حواريّة. وإن كنّا نشهده مصغياً إصغاءً تامّاً، إلّا أنّه ينطق بلسان فاطمة ليبيّن لنا مدى اتّحادهما. فاطمة آتية كالوحي، كالنّور المنسكب في قلب الإنسان. وهي الموحى بها للشّاعر لأنّه انفتح على هذا النّور وسمح له بالتّسرّب إلى أعمق مكان فيه. (قل أنّك منّي إليّ فإنّي/
لـــ: " ياء " و"واو" و " سين" و "فاء"). تغلغلت فاطمة في كلّ ذرّة من كيان الشّاعر، ما دلّت عليه حروف اسمه المنفصلة (" ياء " و"واو" و " سين" و "فاء")، والمتّصلة في آن لكن على ضوء عودة بل حضور فاطمة.
يفتح لنا هذا الحضور آفاقاً واسعة على الخلق تمكّننا من استشفاف مقاصد الشّاعر.
(بُعثت من شهقة الطّين فيك
ومن وحدة الرّوح أسمى سماء
ليمتدّ منك اتّصالي بغيبي
ويمتدّ منّي سعير النّداء..). يعبّر الشّاعر في هذه الأبيات عن وحدة سابقة للخلق الإنسانيّ. فالاثنان جُبلا معاً بروح واحدة وطين واحد، إلّا أنّهما انفصلا شكليّاً أو لنقل جسدانيّاً بيد أنّ الشّركة ظلّت قائمة بينهما.
(فأنا امرأة الدّم عدت..
وأنا الغائب.. الغائب
وأنا الحاضر.. الغائب
وأنا الآتي..الغائب). إن رمز الدّم إلى شيء فهو يرمز إلى الحياة، وفاطمة المنغمسة في كيان الشّاعر حياة قائمة لا يعطلها الغياب. فالغياب هنا بمثابة احتجاب حتّى يتجلّى المعنى. (أنا الغائب.. الغائب/ وأنا الحاضر.. الحاضر). غياب لا ينفي الحضور، وحضور لا يستبعد الغياب.
تذكّرنا هذه الأبيات بهمسات درويش في قصيدة "يحطّ الحمام"، (تعالي كثيراً، وغيبي قليلاً// تعالي قليلاً، وغيبي كثيراً). الحالة العشقيّة الكامنة في حركة دائمة، لا تبدأ لا تنتهي، وتخرج عن نطاق العاطفة التّقليديّة لتدخل إطار العشق السّرمديّ الملتصق بالحقيقة.
(عاشقي أنت..
تفاصيل تكويني..
منفذ وحيي..
دمي / نزيف من جرح مائك
فكرتي / وهج من نور طينك
ومضغة من شبه الفكرة ومنك
كلّي منك
أنت بدء منتهاي..)
بالحبّ خُلق الإنسان ولا بدّ أنّه جبل به وسيظلّ قلبه مضّطرباً حتّى يستريح فيه. وتفاصيل التّكوين عند الشّاعر عشقيّة بامتياز، ويشرح هذا التّكوين بأدقّ تفاصيله. (الدّم/ الماء/ الفكرة/ الكلّ/ البدء/ المنتهى)، تعابير ترسم الوحدة بين الشّاعر وفاطمة ليستبينا لنا كياناً واحداً. بل أعمق من ذلك، فالشّاعر بكينونته استمراريّة لفاطمة وهو مبلغ حقيقتها (أنت بدء منتهاي).
بالمقابل، للشّاعر حركة مستديمة لبلوغ الحقيقة، فهو لا يقف منتظراً مترقّباً بل يسعى ويخطو نحوها. (ستترأى أيّها القادم.. على ضفة النّهر العظيم). في مسيرته نحو الحقيقة يلقى الشّاعر ذاته (أناه) كما لم يعهدها، أو بمعنى أصحّ، يتحوّل بدافع العشق إلى التّجدّد الإنسانيّ (ستترأى أيّها القادم / على ضفة النّهر العظيم / كانّك سواك...). ويرتقي هذا التّحوّل إلى رتبة الألوهيّة عند اكتساب الحكمة. وكأنّي بالحكمة والعشق يشكّلان مفهوم الألوهيّة. (ومن حكمة فاطمة – حكمتي/ إلى أن أتوّجك إله عشق).
- "فاطمة، دائرة النّور":
في النّور تتجلّى كلّ الحقائق، وتتّضح الإجابات، وتنتفي التّساؤلات. وفي دائرة النّور يسبح شاعرنا وتنكشف له أسرار الكون. بل إنّه في القسم الأخير من القصيدة يدخل الشّاعر دائرة النّور وكأنّه خرج من العالم ليحيا هذه الحقائق وينعم بها. وباتّحاده العشقيّ بفاطمة يتجلّى كلّ المعنى، وأمّا بعيداً عنها فيبقى السّؤال قائماً. (أنا أنت المعنى وأنت السّؤال). وتشكّل فاطمة في هذا القسم ذروة الحقيقة ومنتهاها، فلا يعود الشّاعر بحاجة للبحث وإنّما يحيا الحقيقة.
(ستسأل: ما الحياة ؟
وأقول: هو أن تعصر الزّمان في قدح
وأن تعصر العنب في قدح
وأن تظلّ تسكر من ذاك وذا..
حتّى تموت الحياة
وتحيا لي أبداً..أبدا
ستسأل: ما الموت؟
وأقول :
هو أن تنفصل روحك عن جثتي
لتتّحد بجثّة سواي).
مادونا عسكر/ لبنان