فرق كبير بين أن تقرأ عن المخيم الفلسطيني وأن تعيش تفاصيله اليومية. أن تراه كصورة أو تلمسه كواقع. أن تتضامن معه عن بعد أو أن تلتقي برجاله ونسائه وتحس فيهم إرادة الفولاذ وإبداع الملهمين. قد لا تجد خيمة واحدة في المخيم لكنك ستجد نسيجا مجتمعيا متماسكا ومتعاونا وعييا على الكسر والانهيار. هو الحاضنة الجمعية للرواية الصحيحة غير المزورة للتغريبة الفلسطينية التي انتهت إلى إقتلاع شعب من وطنه لإفساح المجال للغرباء القادمين من أصقاع الأرض مسلحين بأساطير تلمودية وأسلحة غربية وتآمر عربي ليبنوا دولة الغيتو على أشلاء أمة عريقة ظلت مستقرة في مكانها لآلاف السنين رغم مرور كل أنواع الغزاة القريب منهم والبعيد. فإذا أردت أن تعرف كيف يفكر المقتلعون من بلداتهم وقراهم في فلسطين، وأن تعرف سر التمسك بمفاتيح البيوت وبسلسلة العائلة والقرى والمدن التي شردوا منها فما عليك إلا أن تتبعني في جولتين قمت بهما في مخيمي الدهيشة وقلندية وسأقتصر الحديث في هذا المقال على زيارة الدهيشة.
مخيم الدهيشة أرض البطولات والانتفاضات
"عبق البطولات وصانع الانتفاضات" لائحة طويلة من الرخام حفر عليها أسماء شهداء الدهيشة في الانتفاضتين، تستقبلك ولوحتان كبيرتان لحكيم الثورة وآيات الأخرس تزينان المدخل الرئيسي الذي كان فيما مضى باب سجن كبير يغلق ويفتح حسب رغبة السجان. لم يتغير الوضع كثيرا. ما زال المخيم يقدم الشهداء في الهبة المقدسية الأخيرة، ولا يمر يوم أو إثنان إلا ويتعرض للاقتحامات الليلية التي غالبا ما تبدأ الساعة الرابعة صباحا. أقسم الحاكم العسكري المسمى "نضال"، (اختار الاسم نكاية بالفلسطينيين) أنه سيرسل شباب المخيم لاستلام معاشاتهم على كراس للمقعدين لأنه سيستهدف الركب. "في الشهر الماضي أصيب ستة من أبناء المخيم بطلقات نارية في ركبهم. إنه الحقد الأعمى والقهر المتفجر من مخيم العزة والكرامة"، قال مضيفي حميد مزهر، الذي ولد وترعرع في المخيم ويعتبر ذاكرته الموسوعية وأحد الناشطين الذين عانوا كثيرا في سجون الاحتلال. يعرف حميد الأزقة والشوارع وأسماء الشهداء وحارات المخيم ونشطائه وسجنائه وفاعلياته. "الانسجام داخل المخيم مثال يحتذى. نحن هنا لا نفرق بين فصيل وآخر. أكبر فصيلين هنا فتح والشعبية. وهناك فصائل أخرى ونعمل في اللجنة الشعبية المكونة من كل الأطراف على حل مشاكلنا بأنفسنا. المخيم نموذج للتضامن المجتمعي والتعاون الفصائلي وإطلاق طاقات المرأة".
تجولنا لساعات في المخيم الواقع جنوب بيت لحم على مساحة صغيرة لا تزيد عن كيلو متر مربع واحد. يصل عدد سكانه إلى 13 ألف لاجئ مسجل لدى وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" ونحو 60٪ منهم من الأطفال. لكن فائضا سكانيا كبيرا إندلق من المخيم على مدى سبعين عاما توزع في أنحاء الوطن والشتات. أقرب البلدات إليه تدعى الدوحة، ويصل عدد سكانها إلى ثلاثين ألفا نصفهم جاء من المخيم. في المخيم عيادة واحدة ومدرستان لمستوى الإعدادية فقط، أي لا وجود لمدرسة ثانوية ويصل عدد الطلاب في القسم الواحد إلى 40، ومع هذا فطلاب المخيم من المبرزين ويتخرج من الثانوية العامة نحو 300 طالب سنويا يلتحق معظمهم بالجامعات. جاء اللاجئون من أكثر من 40 قرية من فلسطين التاريخية. كل قرية محفورة في قلوب وعقول أبنائها حيث يورث الآباء والأمهات معرفة الأماكن التي ينحدرون منها.
الجمعيات الأهلية
في المخيم نحو 45 مؤسسة مجتمعية تغطي أنشطتها جوانب عديدة من حياة السكان وتؤهلهم لتعلم مهارات جديدة كالدبكة الشعبية والتطريز والكتابة والموسيقى والغناء والكشافة وتقديم الدعم النفسي للطفل وغيرها. واختار مضيفي أن نزور جمعيتين: مؤسسة "شروق" ومؤسسة "إبداع".
مؤسسة "شروق" بدأت رسميا عام 2012 بهدف تقديم الدعم النفسي لأطفال المخيم وتأهيلهم وتوفير حياة كريمة وصحية لهم من خلال رفع مستوى وعيهم بحقوقهم من جهة ومن جهة أخرى تنمية قدراتهم الصحية والذهنية من خلال المخيمات الصيفية والألعاب الرياضية وتشكيل الفرق الموسيقية والغنائية والدبكة ونشاطات متعددة تعزز من ثقة اللاجئين بأنفسهم وبقدراتهم.
شرحت لنا السيدتان المشرفتان على أنشطة المؤسسة الفنية سهى زيادة وتمارا أبو لبن، كيف أن المؤسسة شكلت فرقة موسيقية متكاملة من الأطفال، فكتابة الأغاني وتلحينها وتوزيعها كلها جهود محلية. "أطلقت المؤسسة مؤخرا فرقة مختلطة من البنات والأولاد مكونة من تسعة أشخاص لأغاني الهيب هوب. ولدينا مركز إعلامي يمرن الأطفال على إنتاج الأفلام القصيرة ومراجعتها وإعدادها وعرضها". وتضيف زيادة، أن المؤسسة تعتمد كثيرا على المتطوعين الفنيين والقانونيين والرياضيين لتقديم خبراتهم للأطفال مجانا. وتقول أبو لبن أن المؤسسة تقدم الدعم القانوني للاجئين الأطفال خاصة عند إختلاف القانون الدولي الإنساني مع القانون الفلسطيني المحلي. "مثلا يوضع الطفل المعتقل دون سن الثامنة عشرة مع المعتقلين الكبار من المجرمين ويتم إعتقاله بدون وجود محام. لدينا الآن محام متخصص ومستشارة اجتماعية لتقديم الدعم النفسي للطفل المعتقل أو المفرج عنه. وهناك لجنة العدالة التصالحية لحل المشاكل بين العائلات دون اللجوء للمحاكم. وقد استفاد من خدماتنا القانونية فقط أكثر من 130 طفلا".
انتقلنا إلى مؤسسة "إبداع"، وهي من أكبر المنظمات الأهلية في البلاد حيث انطلقت من الدهيشة عام 1994 ووصلت كافة أنحاء الوطن العربي والعالم وتعمل على تنمية قدرات الطفل من كافة الجوانب والاهتمام بالمرأة الحاضنة للطفل وفئة الشباب. وتركز المؤسسة على التبادل الثقافي الدولي وتستقبل الوفود في مقر الجمعية حيث أضيف للمقر مطعم ونزل مكون من ثماني غرف.
وقال خالد الصيفي، الرئيس التنفيذي للمؤسسة، إن الفكرة خطرت له خلال سنوات السجن وبعد أن تم الإفراج عنه بعد إتفاقية أوسلو. "كنت مقتنعا أن حربنا مع هذا الكيان المجرم ليست عسكرية فحسب بل ثقافية وحضارية واجتماعية وفنية ولا بد من تنشئة جيل سوي قادر على النمو في جو صحي يستطيع أن يبدع وينتج ويقاوم في الوقت نفسه. كان الأطفال يحلمون أن يكون لديهم مكان يأكلون فيه وقاعة يجتمعون فيها وإنترنت يشبكهم بالعالم ومكانا ينام فيه ضيوفهم. هذه الأحلام تحققت الآن".
شكلت "إبداع" فرقا فنية ورياضية ومسرحية. وقام الأطفال بتقديم عروضهم في مقر الأمم المتحدة وجنوب أفريقيا والعديد من الدول العربية والأوروبية. وأضاف خالد أن "إبداع" قدمت ثلاثة شهداء هم نضال وكفاح ومحمود المغربي. أما مجموع شهداء المخيم فيزيد عن 70 شهيدا. وتابع شرحه لكل تفاصيل المقر الذي ضم لوحة فنية كبيرة تجمع أسماء كافة مخيمات التشرد للفلسطينيين وأخرى تجمع أسماء القرى والمدن الفلسطينية المدمرة. كما أن هناك حائطا مليئا بالكؤوس والميداليات التي فاز بها رياضيو "إبداع". "هذا مسرح مجهز بالصوت والضوء. ولدينا فرقة مسرحية متكاملة. نحن نقدم الشهداء ولكننا نقدم أيضا الموسيقيين والرياضيين. المخيم لا يعني فقط أنه مستودع للمقاتلين ولكنه منبت للمبدعين أيضا".
أم فتحي
جولتنا في المخيم انتهت بزيارة مطولة للحاجة فاطمة عبد الله إبراهيم "أم فتحي" التي تجاوزت التسعين. يعتبرها أهل المخيم سجلا حيا لنكبة عام 1948 ولا بد من الاستماع لها إذا أردت أن تعرف ماذا جرى في عام النكبة. تبدأ المعلومات تفيض من ذاكرتها بشكل عفوي وإن تدخلت لتغيير مسار الحديث، كما فعل إبنها راجي، فلا تكترث بسؤالك أو تعليقك، تنظر إلى المجهول وكأنها تقرأ عليك من كتاب يشمل أدق التفاصيل في مسلسل الاجتثاث الجمعي للفلسطينيين. "ولدت في بلدة صغيرة تدعى دير أبان بين اللد والقدس. الناس كانوا فقراء يعيشون على ما تعطيهم الأرض. طردنا من بيوتنا وخرجنا دون أن نحمل معنا شيئا. الانكليز هم مشكلتنا. هم الذين قتلونا. فتحوا الطرق من أجل اليهود. وضعونا في سيارات وطردونا. كان في البلد 12 مقاتلا. قتل منهم أربعة وجرح أربعة وفر الآخرون. قصفوا البلد بالقنابل". تنهمر الدموع من عيني أم فتحي دون أن تنظر إلى أحد. "قتلوا آمنة. كانت في كرم الزيتون. تسلقت شجرة زيتون لتقطف الثمار. سقطت على الأرض فركضت أختها فاطمة لتمسك بها فأطلقوا النار عليها وقتلوها أيضا فسقطت فوق أختها. الرصاص كان يمر من فوق رؤوسنا. زوجي أبو فتحي اشترى بارودة ليحمينا. جمعنا ما عندنا من فلوس وذهب وأشترى بارودة انكليزية من الخليل. بس البارودة شو بتنفع قدام المدفع؟". وتتابع "مصطفى ربيبة الغزال كان رجلا صلبا. مر على أخته أم شفيق الغزال. تغدى على مفتول. أراه الآن أمامي. أصرت عليه أخته أن يتناول الغداء. دخلت عليه قنبلة من مستوطنة عنطروف من الباب وانفجرت قبل أن يضع اللقمة في فمه فقطعته وقتلت أخته وزوجته والقطة. جاء الانكليز وطلبوا منا أن نخرج من البلد. خرجت أنا مع دار خالي وذهبنا إلى الخليل. حاولنا أن نأخذ معنا قليلا من القمح.
كان معنا سبع دجاجات. أثناء الرحيل ذبحنا الدجاجات وطبخناهن وأكلناهن لنحتمي من الجوع". تكرر الحاجة أم فتحي بعض الأحداث و وتسترجع التفاصيل. للعلم، قال مرافقي حميد، "لقد فقدت الحاجة أم فتحي حفيدها مزهر قبل شهرين في هبة الأقصى الأخيرة لتستكمل دائرة التضحيات من شهداء لها سقطوا في النكبة وأثناء الانتفاضة الأولى والثانية وحفيد في الهبة الحالية".
د. عبد الحميد صيام
٭ محاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز