إمكانية الحرب الأهلية في الكيان الاسرائيلي

بقلم: فايز رشيد

قال إسحق هرتزوغ، زعيم المعارضة وتحالف "المعسكر الصهيوني" في إحدى جلسات الكنيست: نحن على شفا انتفاضة لا يُستهان بها، مليئة بالكراهية والعنصرية والظلام والقتل والاغتيال، أسّست لها مشاعر الحقد الداخلي الواسعة هنا. فنحن نشمّ رائحة الكراهية في كلّ زاوية وحيّ في إسرائيل، سواء كانت موجهة ضدّ المرأة من قبل الحاخامات العسكريين، أو من اليهود الأشكناز ضدّ اليهود الشرقيين السفارديم، أو العكس. وبهذه الطريقة تُزرع بذور الحقد والكراهية، التي ستقود حكماً إلى حربٍ أهلية.
وتحظى هذه الحملة من الكراهية بدعمٍ كامل وغطاء من المسؤولين.
كذلك، حذّر بعض المفكرين والسياسيين الإسرائيليين مثل النائب أفشلوم فيلان، من أن ثمة فرصا لحرب أهلية في إسرائيل، قائمة على الانقسام الكبير في "المجتمع" الإسرائيلي بين المتدينين والعلمانيين، واحتمال الصدام المسلح بين الحكومة الإسرائيلية والمستوطنين، إضافة إلى أن هناك انقسامات أخرى عميقة بين الإثنيات اليهودية المتعددة والمختلفة. وقال فيلان بالحرف "إن اليمينيين المتطرفين يمثلون تهديدا وجوديا لإسرائيل، فهم يمنعون إقامة مجتمع ديمقراطي، ويمثلون خطرا على إسرائيل أكثر من العرب، وإذا أتيحت لهم السيطرة على إسرائيل، بالانتخابات أو بالقوة فإنهم سيقودونها إلى النهاية لما سماه "الخراب الثالث للهيكل"، ويصف الجماعات المتدينة والاستيطانية المتطرفة مثل "غوش أمونيم" بأنها حركات أصولية مسيحانية أكثر مما هي يهودية، ويستشهد بحادثة اغتيال رابين، فهذه جماعات عقائدية تعمل بدأب وبدافعية كبيرة معتقدة أنها تعرف الصحيح لدولة إسرائيل، وأنها الوحيدة القادرة على قيادة إسرائيل، بدلا من هؤلاء المترهلين في تل أبيب، ولأجل ذلك فإنها يمكن أن تلجأ إلى أي وسيلة.
كما نقلت الصحافة الإسرائيلية عن قادة في جهاز الأمن الإسرائيلي (الشاباك) أن تنظيمات عسكرية سرية تحشد المئات، وتخطط لاغتيال مسؤولين إسرائيليين، في حال إقدام الحكومة على خطوة يعارضونها، مثل إخلاء المستوطنات أو الانسحاب من جزء ولو صغير من الأراضي الفلسطينية المحتلة، والمشكلة الأكبر أن هذه الجماعات العسكرية هي أيضا خارج سيطرة جماعات المتدينين والمستوطنين المتطرفين، فهي أكثر عنفا وانغلاقا، وتعمل بسرية كبيرة. من جهته، توقع معهد "غلوبال ريسيرتش" الكندي، أن حربا أهلية في إسرائيل تلوح في الأفق، مضيفا أن هذا يأتي وسط الاضطراب والفوضى فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يأتى التحذير من الحرب الأهلية داخل الكيان الصهيونى فى ظل تصاعد الصراع الاجتماعي.
بداية، نود التأكيد على أن اليهود الذين جُلبوا من كلّ مكان في العالم لشرعنة إقامة دولة إسرائيل، ولوصفهم فيما بعد بـ"المجتمع" و"الشعب" و"القومية" و"الدولة العبرية"، ليسوا بمنأى عن أي خلافات قد تنشب في ما بينهم. خصوصاً أن إثنياتهم وأحزابهم وجمعياتهم وكل تجمّعاتهم، منفصلة بعضها عن بعض في أحياء خاصة وفقا للإثنية، في غالبية المدن الإسرائيلية، هذه التجمعات لم تكن ولن تكون بمنأى عن الاقتتال الداخلي، خاصة في ظل تنامي التصدعات الأفقية والعمودية في الشارع الصهيوني، هذا أولا. وفي ظل تناقص الخطر العربي على الوجود الإسرائيلي، من خلال عقد الاتفاقيات بين بعض الدول العربية والكيان والتطبيع معه، باعتبار أن "الخطر العربي" كان يساهم في توحيد قطاعات الشارع الإسرائيلي ثانيا، ثم أن الفاشية وباعتراف بعض القادة الاسرائيليين أنفسهم، تتنامى في الكيان، وقد أخذ شارعه النضوح بمزيد من العنف والإجرام المتطور بالضرورة، بالتوازي مع سنوات الوجود الإسرائيلي ثالثا، ولأن الظاهرة الفاشية، كما أثبتت الوقائع التاريخية، لا تجد في النهاية سوى أن تأكل نفسها، كونها تحمل عناصر التدمير الذاتي في أحشائها رابعا! بالتالي، فإن اسرائيل ليست بمنأى عن وصول التناقضات بين الإثنيات المكونة لدولتها إلى درجة التناقض الأساسي (التناحري) بين هذه المكونات وصولا إلى الاقتتال الداخلي.
بالطبع، يمتلك البعض كامل الحق في الاعتقاد، بأن الحديث عن حرب أهلية إسرائيلية، يبدو مبالغا فيه، وفقا للمدى المنظور الحالي على الأقل، ولكن الصراع المسلح والانقسام السياسي، أمران واردان في اسرائيل، والأخيران يحدثان في دولة غريبة عن نسيج المنطقة، دولة متوترة وقلقة، كونها تعيش في عدوان دائم على أصحاب الحق من الفلسطينيين والعرب، لكن العاملين يمثلان بالضرورة خطرا كبيرا، لا يقل عن احتمال الحرب الأهلية في الداخل الإسرائيلي.
إن دولة مثل إسرائيل وفي ظروفها، قد لا تحتمل مثل هذا الانقسام والصراع، وقد تحدث فيها فوضى سياسية وانهيارات في المؤسسات السياسية والإدارية والأمنية في ظل الصراع الداخلي المسلح. ولربما يكون من بين السيناريوهات الإسرائيلية المتوقعة، أن يعاد تشكيل وصياغة استراتيجية جديدة لعوامل الصراع مع العالم العربي، وقد أخذت تتشكل ملامحها، من خلال دعوات وتصورات، أقرّها مؤتمر هرتسيليا الاستراتيجي الإسرائيلي الأخيرالـ 16، بإنشاء تحالف استراتيجي بين الكيان وبعض الدول العربية، التي ألحق بها وصف "المعتدلة"، لمجابهة الأخطار الخارجية والداخلية، التي تواجهها كل دولة من دول التحالف الجديد، بما في ذلك تيارات التطرف والأصولية داخل هذه البلدان. لكن، من الجهة الأخرى، ليس من السهل إنشاء مثل هذا التحالف وتحقيقه عمليا، لا لاعتبارات رسمية عربية، وإنما للاعتبارات الشعبية غير المتصوّرة لقيام أي علاقات مع دولة ارتبط تاريخها بارتكاب المذابح، ودليلي، فشل تجربة التطبيع بين الدول العربية الموقعة على اتفاقيات مع الكيان وبينه.
من زاوية أخرى، وكما هو حاصل فعليا، يتركز اهتمام المتطرفين الصهاينة على شعار "أرض إسرائيل الكبرى" و"الحق التاريخي لليهود" في كل الأرض "اليهودية" بما فيها الضفة الشرقية من نهر الأردن، ليكون الشعار برمزيته الدينية لدى التيار الأكثر تطرفا في الكيان، مدخلا لتجميع أكبر عدد من المؤيدين لهم في مواجهة الحكومة، ومشاريع السلام الدولية والعربية المقدّمة لإسرائيل والانسحاب حتى من أراضي طفيفة في الضفة الغربية (وكلنا يذكر المعركة التي خاضها أصحاب هذا التيار ضد شارون، إبان إعادة تموضع الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، والصعوبة التي واجهها الجيش في إخلاء القلة من المستوطنين في مستوطنات القطاع!)، هذا الشعار يراود أعداد وقطاعات متنامية في الشارع الإسرائيلي، وهو ما يعني إمكانية إطلاق النار من قبل هؤلاء المتدينين والمقتنعين حتى النخاع بمواقفهم وأفكارهم، على الجنود، الذي قد يحاولون إخلاء بؤرة استيطانية قاموا بتنفيذها، وهي ليست مدرجة في الخطة الاستيطانية الرسمية للحكومة. فقد تحدث مواجهة اضطرارية ربما تتطور إلى صراع حقيقي. إن اللجوء إلى السلاح عندما يحدث في إسرائيل، سيطلق العفاريت من القمقم، وقد يحدث ما هو أسوأ من الحرب الأهلية.
إن مسألة صراع الأشقاء ليست بغريبة عن التاريخ اليهودي. حيث يسجل "كتاب القضاة"، أن حرباً أهلية اندلعت بين قبيلتَي "جلعاد" و"إفرايم"، وقد حصدت ما لا يقلّ عن 40.000 شخص. كما يذكر، أن أسباط إسرائيل حرّضوا ضدّ البنيامينيين، وقاموا بذبح 25 ألفاً منهم، بينما يؤكد السرد التاريخي الذي يعود إلى "حانوكا" ـ وهو من الأعياد اليهودية الدينية الصغيرة ـ أنه تمت الإطاحة العنيفة من قبل اليهود الهيلينستيين ضدّ المكابيين، التي قادها آنذاك ماتاتياس. يقول التلمود، إن الثورة ضدّ الرومان فشلت بسبب "العدائية اللامتناهية بين الأخوة"، وقد وفّر العصر الحديث للصهيونية، حلقات طويلة من العنف، رغم تراجعها عن تطوير حروب أهلية شاملة. فالاغتيالات التي طالت بعض المناهضين للصهيونية كيعقوب دي هان من قبل الهاغانا عام 1924، وحاييم أرلوزوروف عام 1933، فضلاً عن إسحق رابين عام 1995، شكل كلّ هذا وأكثرمنه، أمثلة عدّة على قتل شخصيات بارزة خلال فترات الشقاق. هذه التناقضات تعود جذورها إلى الأجيال التي سبقت أولئك، الذين ولدوا في عهد الانتداب، أي قبل قيام دولة الكيان، لكن، منذ ذلك الحين نستطيع تمييز الانقسامات الواضحة داخل الشارع الإسرائيلي، من خلال القوميات التي يشكلها الكيان.
من الواضح، أن التصريحات التي أدلى بها هرتزوغ وغيره من القادة الصهاينة، تشير إلى ازدياد وتيرة التطرّف في إسرائيل، وتعكس حقيقة أن الانقسام المدني الاجتماعي المتفاقم، قد يؤدّي إلى اشتباكات مقبلة مسلحة قد تتحول إلى حرب أهلية. وقد يؤدّي هذا الاستنتاج إلى خلق أجواء لدى البعض أمثال هرتزوغ، الذي يراقب ما يدأب على وصفه بـ(الفاشية في مهدها، إنما الآيلة إلى التطوّر والازدهار في "المجتمع" الإسرائيلي). إنها حالة عامة، ومن الشؤون التي تنبّأ بها آينشتاين وآرنت اللذان سبق وذكرنا في مقالة سابقة في "القدس العربي" أنهما حثّا الصهيونية الأمريكية على عدم السماح بدعم بيغن في مشروعه، الذي أطلقا عليه اسم "آخر مظاهر الفاشية".
جملة القول، إن الصراعات المختلفة في الكيان الصهيوني تتفاقم، وإنها قد تفتح الباب على صراعات أكبر، حيث تنعدم الإمكانية لإطفاء شعلتها، وبالتالي قد تصل إلى درجة متوترة في الصراع الدائر. هذا الأمر مرهون بطبيعة التحولات الاجتماعية، السياسية والاقتصادية في إسرائيل، أكثر من ارتهانها بالظرف الزمني، والاحتمال مفتوح وقائم.

د. فايز رشيد
٭ كاتب فلسطيني