سأبدأ مقالتي هذه بما كتبه الصحفي الإسرائيلي اليساري "جدعون ليفي" في جريدة "هارتس" الإسرائيلية،حيث قال"اذا كان بيرس بطل سلام ،فالمفروض ان تكون اسرائيل دولة سلام،هل يشتري أحد ذلك..؟؟ >
لا يمكن القول انها محتلة ومعتدية،وان بيرس رجل السلام الكبير،وبخلاف العربان والفلسطينيين المنهارين المتقاطرين لحضور جنازة بيرس "بطل" السلام، فجدعون ليفي يقول" اذا كانت اسرائيل امام الهاوية الأخلاقية،فإن لبيرس دوراً في ذلك،ولو كانت اسرائيل متجهة نحو الفصل العنصري،فهو شريك مؤسس.
هذا ما يقوله الصحفي الإسرائيلي الكبير "جدعون ليفي" وليس راسم عبيدات حتى لا يقال بان ذلك يعكس وجهة نظر متطرفة غير راغبة في السلام..!!،فهذا الرجل الذي يجري دفنه الان كان من اكثر القيادات الإسرائيلية مخادعة وتضليلاً،فهو من قال"بأن "اوسلو" الكارثة،هو النصر الثاني لدولة اسرائيل بعد نكبة شعبنا الفلسطيني"،وكذلك شكل وجه اسرائيل الناعم جداً،حينما كانت تريد الحديث عن السلام،وهو من بعد "اوسلو" كان يكثر الحديث عن السلام ولكن لا يعمل شيئاً من اجل تحقيقه،بل لم يتوانى عن إرتكاب المجازر حيث مجزرة قانا اللبنانية وصرخات ضحاياها من النساء والأطفال اللبنانيون ستطارده في قبره،وكذلك أطفال ونساء وشيوخ وشعب فلسطين باكمله،فهو عندما كان في منظمة "الهاجانا" الصهيونية الى جانب قائده بن غورين،عمل على طردهم وتهجيرهم قسراً من مدنهم وقراهم،وكذلك مارس وشارك الى جانب بن غورين وقادة عصابة "الهاجاناه" بعمليات قتل وجرائم بحق الشعب الفلسطيني،مذابح قبية ودير ياسين وغيرها من "نِعم سلام بيرس المزعومة".وهو مهندس المشروع النووي الإسرائيلي في "ديمونة" بالنقب،وصاحب نظريات الإستيطان في كل أرجاء فلسطين، فهو من بنى ما يسمى بالناصرة العليا ومستوطنة "عوفرا" وكذلك عمل على تطوير الصناعات العسكرية الإسرائيلية وسلاح الجو الإسرائيلي.فهو رجل كان يتلكم كثيراً عن السلام حتى انك لتحسبه المهاتما غاندي،والحق يقال عمل من اجل دولة الإحتلال لكي تكون قلعة حصينة قوية ومزدهرة،ولكنه لم يعمل من اجل ان تحقق ولو حداً بسيطاً من العدالة لشعب اغتصبت واحتلت ارضه،فكيف يكون هذا الرجل ،رجل سلام..؟؟.
البعض سيسأل لماذا كل هذا التقاطر العربي والفلسطيني من اجل المشاركة في حضور وتشييع جنازة بيرس،الذي أضحى بعرفهم "بطل" سلام..؟؟ التقاطر العربي والفلسطيني مترتبط بحدوث تغيرات جذرية في قيادة وبنية ودور ووظيفة النظام الرسمي العربي،هذا النظام الذي انتقلت قيادته من البرجوازية الوطنية الى البرجوزية الطفيلية وقطاعات الكمبرادور والثيوقراطية الدينية،فمن بعد حرب اكتوبر التحريكية عام 1973،بدات عملية التغيير في البنية الطبقية والقيادية للنظام الرسمي العربي،وما استتبع ذلك من تغير في الدور والوظيفة ارتباطاً بالمصالح،وقد تعمقت تلك التغيرات بفعل تأثيرات اموال النفط والبترودولار الخليجية،لكي تفعل فعلها في تخريب النظام الرسمي العربي والمقاومة الفلسطينية،حتى وصلنا الى مرحلة "كامب ديفيد"،حيث كنا امام زلزال حقيقي،زلزال في الإنعطافة الحادة لهذا النظام الرسمي في النظرة لدولة الإحتلال،من دولة عنصرية محتلة ومغتصبة لأرضنا الفلسطينية الى دولة يمكن خلق "سلام" معها،هذا السلام الوهم الذي اخرج مصر بثقلها العسكري والبشري والسياسي من المعركة مع العدو الصهيوني،هذا الخروج ترتب عليه غزو لبنان عام 82،من اجل تدمير قوى الثورة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية هناك،حيث كان الخروج والرحيل الى اكثر من قطر عربي،وبعد ذلك العدوان على الأمريكي والأطلسي على العراق،كل تلك التطورات والتغيرات قادت للوصول الى مفاوضات مدريد – اوسلو وما نتج عنها من اعلان مبادىء واعتراف متبادل بين "اسرائيل" ومنظمة التحرير الفلسطينية،ولتستكمل تلك التطورات بإحتلال العراق وتدميره،ولم تقف الأمور عند هذا الحد فامريكا ودول اوروبا الغربية الإستعمارية،لم تتخلى وتكف عن مشاريعها واطماعها الإستعمارية في المنطقة،فهي تخطط من اجل إنتاج سايكس – بيكو جديد في المنطقة العربية،يقوم على أساس تفكيك واعادة تركيب جغرافيتها على أساس المذهبية والطائفية والثروات،وكانت ما يسمى ب "ثورات " الربيع العربي مدخلها في هذا الإطار،حيث جرى تدمير ليبيا والعراق،بعد فشل المراهنة على الإخوان المسلمين للقيام بهذا الدور،من خلال مساعدتهم للوصول الى السلطة في مصر وتونس،حيث سرعان ما إنهار المشروع الإخواني،وخسر الإخوان الحكم في مصر وتونس،وكانت الحلقة المركزية العائق امام هذا المشروع هي سوريا،والتي رفضت الخضوع بالترهيب والحصار والعقوبات،فهي من تشكل تحالفاً قويا مع ايران وحزب الله وبقية قوى المقاومة والممانعة العربية،ولذلك كان لا بد من كسرها بالقوة العسكرية،حيث تكالبت في العدوان عليها اكثر من 60 دولة وبمشاركة فعلية من امريكا ودول الغرب الإستعماري و"اسرائيل" وتركيا ومشيخات الخليج العربي النفطية (السعودية وقطر والإمارات)،ولكن الحلقة السورية بدعم ومساعدة من حلفائها روسيا وايران وحزب الله،لم تنكسر،بل صمودها وانتصارها،يعني فشل ذريع لهذا المشروع،بالتوازي مع ذلك عملت العديد من الدول العربية،وبالذات الخليجية منها على شعبنة الفتنة المذهبية (سني- شيعي)،وحرفت الصراع عن أسسه وقواعده من صراع عربي- اسرائيلي الى صراع عربي- ايراني،وأصبحت ايران بقدرة قادر شيعية والعدو الأول للعرب والخطر على أرضهم وامنهم القومي،بعدما كانت في زمن الشاه والحلف مع امريكا سنية..!!،ولذلك أصبح النظام الرسمي العربي ينظر لإسرائيل كحليف وليس عدو،ونقلت واخرجت العديد من الدول العربية علاقاتها مع اسرائيل من الجانب السري الى العلني،لتصل حد التنسيق والتعاون والتحالف والمناورات العسكرية المشتركة و"الإندلاق" في التطبيع مع دولة الإحتلال.
ولذلك لا أرى غرابة في التقاطر العربي والفلسطيني لحضور جنازة "بيرس بطل" السلام،فنحن امام حالة إنهيار غير مسبوقة عربياً وإستدخال لثقافة الهزيمة و"الإستنعاج" بدل ثقافة الصمود والمقاومة،فهذا التقاطر العربي والفلسطيني و"العويل" على رحيل بيرس بطل" السلام ياتي في هذا الإطار والسياق،والأكثر إيلاماً هو التقاطر الفلسطيني،حيث لم يعرف التاريخ لا قديماً ولا حديثاً قيام حركة تحرر وطني "الضحية" بإستجداء جلادها،بل وحتى المشاركة في جنازة قاتلها.
ومن هنا نقول بأن الثورة الفلسطينية التي دفعت مئات الألآف من الشهداء ومثلهم من الأسرى والجرحى وفي المقدمة منهم فتح والجبهتين الشعبية والديمقراطية وحماس والجهاد وغيرها من المركبات السياسية الفلسطينية،عليها أن ترتقي الى مستوى المسؤولية التاريخية،وإتخاذ مواقف عملية في كل ما يتصل ليس فقط بحضور جنازة "بيرس بطل" السلام،بل ما يتصل بقيادة مشروعنا الوطني وقضيتنا نحو الكارثة،بما يعنيه ذلك من دمار وتفكك.
بقلم/ راسم عبيدات