ما يجري في هذا الهدوء المقنع، في العتمة وفي جهات القاع في دولة الاحتلال، حيث الصدى المرتد واختطاف المشهد، لا زال خارج التغطية الأخلاقية والقانونية والإنسانية والإعلامية، إنها دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تسعى لتحويل معاناة الشعب الفلسطيني إلى قيمة فاقدة للمعنى، والتضحيات إلى عبث لا تؤدي إلى نتائج قريبة أو بعيدة.
اقرأ شهادات الأطفال الأسرى الذين أصبحوا عنوانا لقصف أرواحهم وأحلامهم وتدميرهم ذاتيا ونفسيا، تمارس على أجسادهم كل أساليب القمع والتعذيب على يد جنود ومحققي الاحتلال ومستوطنيه، أشعر بالخوف على البيت والمجتمع والأغنيات القادمة، وأشعر أن ملاحقة الأطفال قتلا واعتقالا هي ملاحقة للحرية المتنامية المتفتحة في قلوب وعقول أطفالنا الصاعدين إلى حياتهم باشتياق.
هناك، حيث التسلط على الطفولة والوعي، وهناك حيث تجري هندسة الأحلام الصغيرة في السجون أو في مراكز الايواء، يقبع الطفل شادي فراح (12 عاما)، أصغر أسير فلسطيني، والمئات من زملائه الذين قصّوا اجنحتهم على ذلك السياج، المدرسة بعيدة، والأيام القادمة خالية من الجري في البراري ومن ثبات الخطوات.
وهناك في غرفة (4) في "المسكوبية"، تنتزع الاعترافات من الصغار، ب"الدبسات" والشتائم البذيئة والضرب والترهيب والتهديد بالتحرش الجنسي، هناك دولة ومحققون فقدوا حسهم البشري، يصهرون الأطفال في جحيم التعذيب، لا أخلاق ولا قانون، ساحات مستباحة لعصابات تلبس القبعات وتحمل المسدسات وتصطاد الأطفال.
خارج التغطية صراخ ذلك الطفل، صوت الفزع في العتمة، جروحه النازفات نتيجة الدعس والتنكيل والجرّ والاهانات، وخارج التغطية ندائه الطفولي المرتد على أربعة جدران وألف باب وباب.
خارج التغطية هذا الاستهداف السياسي الوحشي للأطفال الفلسطينيين، لم تصل لجان تحقيق أممية، لم ينعقد أي مؤتمر دولي لمناقشة مذبحة انسانية يتعرض لها القاصرون، لا كاميرا في ذلك المعسكر أو المستوطنة لتوثق ما يحدث للذين اختطفوا من نومهم في ساعات الفجر الأولى.
خارج التغطية ما يحدث من مجازر في ساحات المحاكم العسكرية الاسرائيلية، أحكام مرتفعة وغير مسبوقة، قضاة متبلدون آليون يصدرون أحكاما رادعة على طفل لا زال يسأل عن أمه وعن قلم الرصاص في صف المدرسة، وعلى الجميع أن ينزل إلى هناك ليشاهد الدهشة والصدمة والأسئلة الكبرى، ما أوسع هذا القيد وما أكبر جوف المقبرة.
خارج التغطية هذا التنكيل الانتقامي لكل طفل منذ لحظة اعتقاله، الحفلة تبدأ داخل السيارة العسكرية، طفل مقيد ومعصوب العينين يلقى تحت "بساطير" الجنود على أرضية مدببة، يتفننون في توجيه الضربات، يخبطون على رأسه وجسده، يضحكون ويتناوبون التقاط الصور، إنها بطولة دولة فاسدة وفاشية تبحث عن صور نصر أمام طفل بائس يتعرض للإهانات والمعاملة السيئة.
خارج التغطية رحلة الأطفال من السجن إلى المحكمة العسكرية الاسرائيلية، رحلة تستغرق 3 أيام قاسيات في سيارة بوسطة مغلقة مقيدين جالسين على كراسي حديدية داخل أقفاص، رائحة قذرة، اختناق، برد شديد، لا ماء ولا طعام، وقوات "النحشون" القمعية تتلذذ بضربهم وبسبهم وحرمانهم من الحاجات الأساسية.
خارج التغطية، رائحة الأيادي البضة، رائحة الغبار والحجارة والخروج عن حدود المعازل الكثيرة، جيل مختلف مستيقظ، يفتش عن حياته ابعد وابعد من دائرة لا تتسع لأغنياته، ويفتش عن سماء أبعد وأبعد من سياج يتدلى إلى غرف نومه، يفتش عن ذاكرة الماضي والحاضر، يرفض التدجين والتطويع وجنون الامر الواقع.
خارج التغطية هذه الاعدامات الميدانية التعسفية لمجرد الاشتباه، هوس القتل بحق الأطفال على هذا الحاجز أو ذاك، هم لا يقتربون من طفل يمشي في الشارع كغزال، هم خائفون مشبعون بالقلق والتوتر، زخات من الرصاص وضحايا على الرصيف أفضل من الاقتراب من الصغار أو اعتقالهم أو تحييدهم.
خارج التغطية هذا الإرهاب الرسمي وتحت غطاء فاضح من العنصرية والقوانين التعسفية، إلى درجة ان حياة الفلسطينيين تحولت إلى منظومة متواصلة من التفتيش والملاحقة واختبارات الموت، يقود ذلك خطاب ديني يميني اسرائيلي يخرج من معهد ديني وينفجر في اعتداءات مستمرة على الفلسطينيين بشرا وشجرا وهوية.
خارج التغطية كل هذا الذي يجري، لأن اسرائيل دولة فوق القانون، منفلتة من المحاسبة والعقاب الدولي، طوعت قوانينها لتبرير كل الجرائم، ماكنة احتلال تعمل على كل المستويات وتزور الحقائق وتدعي انها دولة ديمقراطية، وأن سلاحها طاهر، وان جيشها الاكثر اخلاقا في العالم، ولا زال ينقص هذه الادعاءات أقدام مبتورة للطفلين جلال شراونة وعيسى المعطي، وصراخ الطفل احمد مناصرة تحت التعذيب .
يكتب الأطفال:
القيود تجر العصافير
مخنوقة
حول اعشاشها
هربا من سماء
هربا من كتاب
بقلم عيسى قراقع
رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين