قد تحمل ظاهرة استسهال الكثيرين الكتابة حول المؤتمر السابع لحركة "فتح" المزمع عقده في التاسع والعشرين من الشهر الجاري عددًا من المؤشرات والدلائل، بعضها يبرره حاضر هذه الحركة بالمقارنة مع تاريخها ومكانتها كعمود الحركة الوطنية الفلسطينية الفقري.
وبعضها يعكس هزال واقع الفصائل الفلسطينية الأخرى والمؤسسات القيادية على مختلف أصنافها وركائزها الشعبية أو النخبوية؛ وعلى جميع الأحوال سنجد أن بعض من كتبوا في هذه المسألة حرّكتهم غيرتهم الحقيقية على القضية الفلسطينية، وآخرين من خوفهم على حركة "فتح" ومستقبلها.
بالمقابل سنكتشف أن جزءًا استغلوا المناسبة، وحولوها إلى منصة للهجوم الموسمي، خدمةً لأجندات غريبة عن مصلحة فلسطين التي استظلوا بفيئها حين فتحوا نيرانهم على عدة جبهات – كان في طليعتها الرئيس محمود عباس المتهم عند هؤلاء بأنه يمضي إلى عقد هذا المؤتمر ضد إرادة الأكثرية الفتحاوية وخدمة لمصالحه الضيقة. علمًا بأننا إذا فتشنا في تاريخ بعض تلك الأقلام سنجدها قد اتهمت في الماضي الرئيس عباس نفسه بأنه يتهرب من استحقاق عقد هذا المؤتمر، وإجراء انتخابات جديدة للجنة المركزية والمجلس الثوري الفتحاويين، في حين لم تسلم من تلك الهجمات جميع معسكرات فتح الكثيرة، سواء من تواجد منها على أرض الوطن أو غاب عنه وابتعد، ومعظم هذه الفئات الفتحاوية كانت وما زالت معنية بانعقاد المؤتمر.
ومنعًا لأي تقوّل أو التباس أؤكد أنني لست عضوًا في تنظيم فتح، أو في أي فصيل أو حزب سياسي آخر، وكان من الأسهل عليّ أن أضم صوتي لجميع من تعودوا مهاجمة وانتقاد فتح وقياداتها، سواء من نشط منهم في منظمة التحرير أو من استأثر بكرسيه الوثير في مراكز السلطة، لكنني قررت الكتابة بشكل مغاير، لأن القضية لا تنحصر بحركة فتح ومستقبلها، ولكوني أعيش قريبًا من قلب الأحداث العاصفة والمتداعية في فلسطين، التي ستصحو بعد أشهر قليلة على احتلال صار في الخمسين، ونكسة ما زالت كالقدر شاخصة في سموات الشرق، بعد أن محت أنضر أحلام العرب حين نزلت عليهم بسرعة اللعنة، وأفقدتهم أقفاصهم الصدرية فعادوا، كما كانوا، شعوبًا خدجًا وقبائل فائرة بدأت مسيرة إيابها على دروب قوافل أجدادها متقاسمةً السراب والصلوات والندى، وما أورثته الريح وظبات السيوف والصدى.
لا يمكن فصل ما يجري في فلسطين عما يحيط بها من تفاعلات وتطورات، ويحاك بحقها من مؤامرات وخطط، فمن جهة سنجد الحروب الطاحنة في العديد من الدول العربية، التي شكلت ذات يوم عمقًا للقضية الفلسطينية، ما زالت مستعرة وأدت إلى اضعاف دور الجامعة العربية وتحولها عمليًا إلى مؤسسة جريحة ضعيفة. ومن جهة أخرى نجد التغييرات الحاصلة في سياسات كثير من أنظمة الحكم في الدول الأوروبية وانتصار اليمين الأهوج الذي سيقوده دونالد ترامب من الولايات المتحدة، إلى جانب تفاقم قوة أحزاب اليمين المتطرف في إسرائيل، خاصة تلك التي تؤمن بإسرائيل الكبرى، فكلها عوامل حاصرت القيادة والقضية الفلسطينية، وأفضت إلى أن تعيش فلسطين اليوم مرحلة عصيبة، تواجه فيها مجموعة من الأخطار الحقيقية التي قد تؤدي إلى شطب مكاسب الشعب وما حققته ثورته خلال العقود الماضية، خاصة ونحن نشهد ضعف قوى اليسار العربي والفلسطيني وتلاشي فصائله، حتى غدا بعضها مجرد كيانات هلامية أو وهمية، هذا علاوة على ما يشكله الانقسام الداخلي من تهديد مستقبل المشروع الوطني والدولة الفلسطينية المستقلة، علمًا بأن "رعايته"من بعض الدول الأجنبية تضاعف مضاره، وتضعف احتمالات إنهائه في المدى المنظور، وتبقي المصالحة المنشودة مجرد شعار.
فمن ذا الذي يقف في وجه هذه الظروف شبه المستحيلة؟ ومن يتحمل مسؤولية الصمود في وجه ما يحاك من مكائد؟ ومن يفشل جميع الجهود الرامية إلى احتواء قضية فلسطين وتحويلها مجددًا إلى مجرد لقيطة تتناوشها الأهواء ومناورات الأشقاء والأعداء؟
في هذا العالم "المتبركن" من حولنا وفي هذه الظروف العربية والإسلامية والفلسطينية القاهرة والمعقدة، وفي ظل استيحاش المحتل الإسرائيلي، يكتسب قرار عقد المؤتمر السابع أهمية مصيرية كبرى، وهو لذلك لن يكون، برأيي، مجرد دورة سابعة في تاريخ الفصيل الأبرز من فصائل الثورة الفلسطينية، بل حدثًا يعادل مهمة إنقاذ الأمل الفلسطيني من ضياع وشيك؛ هكذا يجب أن يسجل هذا المؤتمر في صفحات الأيام، وعلى جميع الفتحاويين المنتدبين لحضوره تحويل اللحظة، رغم ما شابها من عسر مخاض ومنافسة وترقب وخيبات وزعل، إلى عملية ولادة فذة تنجب مخرجات سياسية مسؤولة ومؤثرة وقيادة جديدة واعية وجديرة بتضحيات مئة سنة من نضال شعب تواق للحرية وباحتضان حلم جميع الفلسطينيين وأحرار العالم.
إلى ذلك أقول إن للمشككين في دواعي انعقاد المؤتمر أسبابهم ومبرراتهم، وبعضهم يعتمد جروح الماضي براهين وقرائن محقة وصائبة، وللمنتقدين الغيورين خزائن من ندب ما زالت تعلو خد الوطن، ويكفيهم ما رشح من مثالب رافقت انعقاد المؤتمر السادس المنصرم، وللمستبعدين فائدة وطنية من انعقاده رائحة الهزيمة ونبض العجز المتأصل، ويبقى للمزايدين استعذابهم صوت الوجع مبرِرًا وإدمانهم طعم الكسل وسهولة التحليق على حافة الوهم ووعوده.
أما أنا فلقد اخترت عامدًا ومتوجسًا من هشاشة الفرح في مواقعنا، أن أثق بفتح المؤتمِرة وبمسؤوليتها أن تجيب على تساؤلات جميع تلك الفئات، وتبرهن لهم كيف سيزغرد الفجر في رام الله ليفرح شعب فلسطين المكلوم الرافض للذل والمهانة.
قرأت معظم ما كتب عن وفي المؤتمر، أوافق على كثير من المخاوف والتحفظات التي ذكرها بعض الكتاب العارفين ببواطن الأمور والقريبين من واقع حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي؛ فلقد غيبت القيادات منذ سنين النقاش في مسائل حارقة ومهمة ومعضلات أساسية وجوهرية في حياة شعب يقبع تحت احتلال، وإذا لم تناقش هذه المسائل بجدية سيتحول الاستمرار في إهمالها إلى جرعات سم قاتل وستلقي بهم في الهاوية.
لن يكون المؤتمر حلية رخيصة على جيد الوطن. وعليه من المتوقع والمنتظر أن يجري المؤتمرون جردة حساب مسؤولة وشاملة وتقييمًا لتجربة السنوات الماضية لاسيما ما جاء باتفاقيات أوسلو وما تلاها وما أفضت إليه لغاية اليوم، من خلال استشراف مستقبل من شأنه أن يستنهض قوى الشعب اليائسة ومحركات الثورة الناعسة وعليهم العمل، كذلك، على وضع تصوراتهم حول وجهة النضال الفلسطيني ضد احتلال ما زال في قمة نشاطه وذروة قمعه، وتلتهم عناصره أراضي فلسطين بجشع مطّرد، وتربي مدارسه أجيالًا من عشاق الضغط على الزناد واصطياد الرياحين والنرجس.
على المشاركين، مهما كانت مشاربهم وولاءاتهم وأصول انتدابهم، أن يفككوا ويحددوا علاقة حركة فتح بثنائية السلطة ومنظمة التحرير، وعليهم توضيح موقع الحركة بين تينك المنزلتين وتشخيص ما أصابها من خدر في بعض أطرافها التي تاهت في عبثية ملتبسة، إذ آن أوان الكشف عن ملامحها وفرز دورها كحركة مقاومة وطنية ما زالت تشكل عمليًا الركيزة الأساسية في مسيرة الشعب نحو التحرر.
كتبت بتفاؤل ربما سيستفز البعض، فأنا لا أريد أن أكون من دعاة التيئيس والحفارين عن جذور الضياع المستشري والعجز الوطني الطاغي، وأنا أفعل ذلك باسم المصلحة الوطنية التي تستصرخ هذا التفاؤل والتأميل، ففتح لم تكن المسؤولة الوحيدة عن ذلك المنزلق الخطير، وإن كان دورها الأكبر والأهم تبقى مسؤولية باقي الفصائل والحركات ومؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية والنقابات والنخب الصامتة، ملموسة، فجميعهم شركاء فيما وصلت إليه القضية الفلسطينية التي تلهث، كما ذكرنا، على رصيف محطة مفصلية في حياة الشعب، الذي عرف دوما كيف يتلمس دروب الحرية حتى صار قاب قوسين وأدنى من أبوابها الحمراء.
لن أنضم إلى رتل الندابين ولا إلى رهط المشككين في جدوى هذا المؤتمر، فأنا أعرف كثيرًا مما عاب بداياته، ومن البدائل الأفضل لما انجز واختير، لكنني أعرف كذلك أن كثيرين ذاهبون إلى قاعة أحمد الشقيري في المقاطعة كي يمسكوا بشمس الحرية، وكي يعيدوا للكرامة الفلسطينة لون الفجر القرمزي وللأمل أجنحة النسور وتفاني الفراش، وهم لن يكونوا مجرد أصفار تتساقط من غربال ممزق.
لن أصفق مع النعاة، لأنني متيقن أنه إذا فشل المؤتمر أو أفشل لن تكون فتح وحدها هي الخاسرة، فمعها ستبكي السنونوات في بيت جدي، وسيرحل الدوري عن بيادر الوطن، وسيرتعد عيبال وتنتحب القدس .
فامضي يا فتح امضي، ولا تقبلي من التاريخ فتاته، وحولي قحط سنينك الخوالي ربيعًا وشلالات نور تفيض في ربى فلسطين الذبيحة من عهد بيلاطس إلى عهد ريكاردوس ومن عهد سليمان إلى عهد نركيس.
جواد بولس
كاتب فلسطيني