تمر في هذه الأيام.. الذكرى العطرة.. التسعون وأربعمائة وألف.. لمولد خير الورى طراً.. وأفضل البشرية قطعاً.. وأعظم ولد آدم يقيناً.. في الوقت الذي يتعرض أبناء أمته.. إلى أشد.. وأشنع.. وأبشع.. وأوحش هجمة شرسة.. ضارية.. عرفتها البشرية.. في القرنين السابقين.. من التقتيل.. والتعذيب.. وسفك الدماء وتهديم البيوت.. على رؤوس أصحابها..
مما يجعل هذه الذكرى الطيبة.. باعثاً.. ودافعاً للثوار الأحرار.. لبذل المزيد من العطاء.. والتضحية.. والفداء.. والصبر.. والمصابرة.. اقتداء بسيرة خير الأنام..
إلا أنه:
مما يفجع الإنسان.. ويفتت الكبد.. ويمزق نياط القلب..
أن كثيراً من ذرية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.. يتعاملون مع ذكرى مولده الطاهرة.. بطرق مشينة.. وغريبة.. وسيئة للغاية.. إلا من رحم الله..
فقسم يستخدم هذه المناسبة.. للتعبير عن فرحه.. وابتهاجه بها.. بالرقص.. والغناء والدبكة.. في المساجد والتمايل.. بحركات دورانية.. تسمى ( المولوية ) نسبة إلى جلال الدين الرومي.. الذي أضاف في بداية إسمه.. لقب مولانا. ..
وهو الذي ابتدع هذه الرقصات.. اعتقادا منه.. أنها تعمل على الصفاء الروحي.. وتؤدي في النهاية.. إلى انحلال الذات الإلهية – تعالى الله عن ذلك علوا كبيراً – في جسده!!!
فهو من الذين يؤمنون بالحلول.. والإتحاد!!!
وقسم ينظم مهرجانات.. ويبني سرادقاً كبيراً.. وتعلق فيه الزينات المتنوعة.. برفقة الأعلام الوطنية.. ويضاء المكان بالأنوار.. والشموع.. وتعقد جلسات الطرب.. والموشحات الموسيقية.. والغناء الشعبي.. والغناء البلدي.. وتلقى فيه القصائد الشعرية.. التي تغالي في تمجيد.. وتعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم.. حتى تصل.. إلى حد الشرك.. مع الله تعالى..
علماً بأنه نهى.. نهياً قاطعاً.. باتاً.. عن إطرائه:
( عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ )... صحيح البخاري.
وفي بلدان عديدة.. يتم تعطيل الدوام.. في المدارس.. والجامعات.. والدوائر الحكومية.. فيتوقف الإنتاج.. والعطاء.. ويخلد الناس إلى النوم.. أو التسكع في الأسواق.. التي هي الأخرى.. تحتفل بنشر الرذيلة.. وتشيع الشهوات.. والمفاسد الخلقية.. وتسهل الحصول على المتعة الحرام.. في هذه الذكرى المجيدة.. المقدسة!!!
كما تقام في المسجد الرئيسي.. لتلك البلدان.. احتفالات رسمية.. يحضرها الحاكم بأمره.. وتُلقى الكلمات التمجيدية للرسول صلى الله عليه وسلم.. وللحاكم معاً.. ويقدم الناس.. شارات الطاعة.. والولاء للحاكم الهمام.. بالإنحناء له.. وتقبيل يديه في بعض البلدان!!!
إن جميع هذه المظاهر..
عبارة عن بدع.. وضلالات.. ما أنزل الله بها من سلطان.. وفيها من الآثام.. والمعاصي.. ولوثات الشرك.. الشيء الكثير!!!
وهي دلالة:
على تهافت الأمة.. وانحلالها.. وهبوطها إلى أدنى دركات الإنحطاط.. والجاهلية.. وإلى أدنى درجات.. التخلف العقلي.. والفكري.. والإنسلاخ من عقيدة التوحيد.. التي إذا حصل فيها أي اهتزاز.. أو اضطراب.. تؤدي بالمسلم.. إلى أن يصبح خارج.. دائرة الإيمان!!!
هذا ليس مبالغة.. أو تهويل.. أو تطرف..
إنها:
عقيدة التوحيد الكاملة.. الصافية.. الخالصة من أي شائبة.. مهما كانت صغيرة..
هي الأساس لقبول الإنسان عند الله..
وقد أكد الله تعالى.. هذه الحقيقة.. في كتابه العزيز.. مرات عديدة.. وكثيرة..
أنه سبحانه.. لا يقبل أن يُشرك معه.. أي شيء.. على الإطلاق..
ولذلك كانت وصية لقمان الأساسية.. لابنه:
( وَإِذۡ قَالَ لُقۡمَٰنُ لِٱبۡنِهِۦ وَهُوَ يَعِظُهُۥ يَٰبُنَيَّ لَا تُشۡرِكۡ بِٱللَّهِۖ إِنَّ ٱلشِّرۡكَ لَظُلۡمٌ عَظِيمٞ ).
وأنه تعالى.. يمكن أن يغفر جميع الذنوب.. ما عدا الشرك..
(إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَغۡفِرُ أَن يُشۡرَكَ بِهِۦ وَيَغۡفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُۚ وَمَن يُشۡرِكۡ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفۡتَرَىٰٓ إِثۡمًا عَظِيمًا ).
فالذي يضفي على الرسول – بسبب محبته الكبيرة له – أي صفة.. من صفات الألوهية.. الخاصة به تعالى:
مثل:
الرزق.. الهداية.. الشفاء.. النصر.. الحياة.. الموت.. النفع والضر..
فإنه يجعله شريكا لله .. وهذا مرفوض عند الله.. رفضاً قاطعاً.. باتاً..
ولذلك كان تحذير الرسول صلى الله عليه وسلم.. لأصحابه.. بالنهي الشديد.. عن إشراكه مع الله تعالى..
(عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَدَّثَهُ بِبَعْضِ الْكَلَامِ فَقَالَ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت ، فَقَالَ : جَعَلْتَنِي لِلَّهِ عَدِيلًا ، لَا بَلْ مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ ) .
مجرد مثال واحد على مظاهر جعل النبي شريكاً لله..
أحدهم أرسل لي قصيدة.. فيها مديح للنبي المصطفى..
خليلي سيرا نحو طيبة واقصدا منازل عز بينها ومغانيا
رسولا شفى جرح الشعوب وكلما تبدى الأسى كان الطبيب المداويا
فالبيت الثاني.. فيه شرك صريح.. وواضح مع الله تعالى..
إذ الشفاء.. من اختصاص الله وحده..
فإبراهيم أبو الأنبياء يقول:
( وإذا مرضت فهو يشفين )..
وأمثال هذه القصائد الشركية.. كثيرة.. ومتداولة على نطاق واسع.. في سورية.. ومصر.. وغيرها.. وبشكل أخص عند الصوفية!!!
فهذا أمر خطير جداً.. يهدد عقيدة المسلم..
يظن أنه على الإسلام.. وإذا به غارق في الشرك.. سواء كان يدري.. أو لا يدري..
على الطرف الآخر..
يوجد صنف من الناس.. يتعاملون مع النبي.. وكأنه شخص عادي.. ليس له في نفوسهم.. تلك الهيبة.. وذلك الإجلال.. والإحترام.. فيخاطبونه كما يخاطبون أصحابهم!!!
هؤلاء هم الأعراب.. الجفاة.. الغلاظ.. الذين تأثروا بأقوال ابن الصحراء.. صحراء نجد القاحلة.. الصلبة القاسية ( محمد عبد الوهاب ).. ذي الأفكار البئيسة.. التعيسة.. المغالية في نظرتها للتوحيد.. بحيث أنها لأجل التوحيد المزعوم.. استهانت بقيمة الأنبياء.. وقيمة الإنسان.. بحيث أصبح لا شيء.. يمكن قتله لأتفه الأسباب.. متجاوزين الآيات القرآنية.. التي تدعو إلى احترام الرسول.. وتقديره.. ومعاملته معاملة خاصة.. لائقة بمنزلته العالية..
(يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَرۡفَعُوٓاْ أَصۡوَٰتَكُمۡ فَوۡقَ صَوۡتِ ٱلنَّبِيِّ وَلَا تَجۡهَرُواْ لَهُۥ بِٱلۡقَوۡلِ كَجَهۡرِ بَعۡضِكُمۡ لِبَعۡضٍ أَن تَحۡبَطَ أَعۡمَٰلُكُمۡ وَأَنتُمۡ لَا تَشۡعُرُونَ ).
ومتجاوزين الأحاديث الشريفة.. التي تحرم قتل المسلم..
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ الثَّيِّبُ الزَّانِي [ص: 1303] وَالنَّفْسُ بِالنَّفْسِ وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ .
هذا الصنف من الناس..
يعترضون أشد الإعتراض.. حتى على مجرد ذكرالرسول.. والإهتمام به.. في يوم مولده!!!
ويعتبرونها بدعة.. محدثة.. ضالة.. محتجين بحجة ظاهرها الحق.. وباطنها الجفاء.. والخشونة.. والإستهتار بمقام النبي!!!
بأن الرسول صلى الله عليه وسلم.. لم يحتفل بيوم مولده.. في حياته.. ولم يوليه أي اهتمام.. وأي اعتبار..
وهذا صحيح..
لأنه كان يركز همه.. على بناء أمة.. بالعقيدة.. وليس بالميلاد..
وكذلك الصحابة.. والتابعون.. لم يحتفلوا بيوم مولده..
لأنهم.. كانوا يعيشون يومياً يوم مولده.. بأخلاقه.. وسيرته.. التي كانوا يطبقونها في حياتهم.. وكانوا مشغولين.. بأمر نشر الإسلام.. وفتح البلدان..
فلم يكن لديهم.. مبرر.. لأن يخصصوا يوماً.. للإحتفال بميلاد النبي ..
ولكن الأمة الآن:
في وضع مأساوي.. تحتاج إلى محطات تغذية.. وإنعاش.. وتقوية.. وتنشيط.. باستغلال مثل هذه الذكرى العظيمة..
أولاً: للحد من انتشار المفاسد.. المرافقة للإحتفال.. وتوعية الناس.. بأخطارها.. وتحذيرهم من ممارستها..
ثانياً: تحفيز الناس.. لاتباع الهدي النبوي.. وتحريضهم.. على السير في طريقه..
لأنه هو النجاة للأمة.. من الذل.. والمهانة التي تعيشه..
السبت 11 ربيع أول 1438
10 ك1 2016
د. موفق مصطفى السباعي