الثقة.. كلمة جميلة.. ورائعة جداً.. وذات دلالة كبيرة..
إنها تعطي انطباعا بالعظمة.. والقوة.. والسيطرة..
ولذلك:
بمجرد أن ينطقها الإنسان.. يشعر بالقوة.. ويشعر بالراحة.. ويحس بالأمان.. ويلمس في جوانحه.. أنه قد سرت نسمات الإستقرار.. وتداخلت في أعماقه.. نفحات السلام.. وارتخت عضلاته.. وأحس بأنه.. يرتكز على قاعدة صلبة.. راسخة.. متينة..
إنه بمجرد أن يكررها.. ويستشعرها في أعماق قلبه.. يحس بالإطمئنان..
كما يحس المؤمنون بالإطمئنان.. حين ذكر الله..
(ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَتَطۡمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكۡرِ ٱللَّهِۗ أَلَا بِذِكۡرِ ٱللَّهِ تَطۡمَئِنُّ ٱلۡقُلُوبُ )..
ولكن الثقة بمن؟؟؟!!!
بالنسبة للمسلم.. المؤمن بالله الواحد.. الأحد..
فإنه لا يجد أمامه من يثق به.. الثقة الكاملة المطلقة.. ويضع كل اعتماده عليه.. وارتكانه إليه.. إلا الله عز وجل..
لأنه هو الوحيد في هذا الكون.. الذي لا يخلف الميعاد.. وهو القوي القادر.. على انجاز ما يُطلب منه.. وما يعد به.. وهذا ما يُطلق في المصطلح الشرعي ( حسن الظن بالله ).
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ).
وفي رواية أخرى يعتبر حسن الظن بالله من العبادة..
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : " إِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ بِاللَّهِ - تَعَالَى - مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ " ).
ولكن..
هل الثقة بالله.. هي خبط عشواء؟!
أي واحد يدعي.. أنه يثق بالله.. فهو فعلا واثق؟!
لا.. أبداً..
لا بد للذي يثق بالله.. من شروط.. ومواصفات..
شروط الثقة بالله.
1- الإيمان اليقيني.. الحقيقي.. التام بقدرة الله المطلقة.. والتصديق بوعده..
2- القيام بكل الأعمال.. والمستلزمات المطلوبة.. من العبد.. واستنفاذ كل الجهد.. لتحقيق ذلك.
3- بعد استنفاذ كل الوسائل.. وتأديتها على أصولها.. أو بكلمة أخرى.. الأخذ بكل الأسباب المنوطة بالعبد..
بعدها يكون.. تفويض الأمر إلى الله وحده.. لا شريك له.. والركون إليه.. والإعتماد.. والتوكل عليه.. والثقة الكاملة.. التامة.. بتحقيق وعد الله.
هذه شروط ثلاثة أساسية.. وضرورية جدا.. ولا بد من اجتماعها مع بعض..
لأنها تشبه القوائم الثلاث للحامل.. حتى يقف مستقراً على الأرض.. ولا يمكن.. أن يستند الحامل على قائمتين.. أو على قائمة واحدة..
إذن لا بد للثقة.. حتى تعطي مفعولها.. وتحدث تأثيرها الفعال.. الحقيقي.. من توافر الشروط الثلاثة الآنفة الذكر..
فمثلا
أن يجلس شخص في البيت.. أو المسجد.. يدعو ربه.. زاعماً أنه يثق بربه.. أنه سيرزقه.. بدون أن يبحث عن عمل..
فهذا مخالف للثقة بالله.. ومخالف للتوكل عليه..
وقد قال عمربن الخطاب.. للشخص الذي وجده في المسجد النبوي.. في غير وقت الصلاة.. يدعو الله أن يرزقه ..
هل علمت أن السماء.. تمطر ذهباً.. أو فضة.. وضربه بالدرة.. ودفعه للخروج من المسجد.. للبحث عن عمل.. يسترزق منه..
ولكن شخصاً آخر.. عاجز عن العمل.. ولا يستطيع العمل البتة.. وليس لديه من يعوله..
فليس أمامه.. إلا الثقة المطلقة بالله.. كي يرزقه..
وكذلك الذي ينطلق.. إلى قتال الأعداء.. وهو لم يستكمل إعداد العدة.. التي طلبها رب العباد بقوله:
( وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا ٱسۡتَطَعۡتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ ٱلۡخَيۡلِ )..
سواءاً تقصيراً.. أو تهاوناً.. فلن تنفعه الثقة لوحدها.. بأن ينتصر على الأعداء..
كما أن مدلول الآية.. أكبر مما يظن البعض.. أنه مجرد أسلحة..
فالأسلحة لوحدها.. لا قيمة لها.. إذا لم تمسكها يد خبيرة.. مدربة.. وجادة في القتال في سبيل الله وحده.. ( وهذا يشمل الدفاع.. عن الأعراض.. وعن الأرض.. وعن المال.. وعن الناس ).. ومخلصة.. وصادقة.. ومتجردة من حب الذات.. وحب الدنيا.. ولديها خطة محكمة..
هذه الأعمال كلها.. من مقتضيات.. ومتطلبات إعداد القوة..
و أما المواصفات:
فإنه بعد تحقيق الشروط المذكورة آنفاً.. يصبح الشخص في غاية الإطمئنان.. إلى تحقيق الهدف الذي رسمه لنفسه.. وتتولد لديه قوة خارقة.. من العزم.. والتصميم على مواصلة الطريق..
لأنه واثق ثقة كاملة.. وتامة.. بنصر الله.. وتحقيق وعده..
( إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُخۡلِفُ ٱلۡمِيعَادَ ).
وطالما هو نصر الله.. وخضع له.. ونفذ تعليماته.. وأوامره..
فالله بالمقابل.. ينصره كما قال:
(وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ).
و أما النوع الثاني من الثقة
هو:
التقة بالقدرات العقلية.. والفكرية.. التي يمتلكها الإنسان..
وهذا النوع.. يمكن أن يكون مع النوع الأول.. بالنسبة للمؤمن بالله.. فيزيده قوة.. وصلابة.. ويقيناً أكثر..
أما غير المؤمن.. فإنه يعتمد على هذا النوع فقط.. لأنه ليس له سواه..
ويمكن أن يحقق نجاحات كبيرة.. وانجازات عظيمة.. ويمكن أن يخطط لأمد بعيد.. وينفذ ما خطط له.. بالتمام.. والكمال.. طالما أن المؤمن.. غائب عن الساحة.. ومبتعد عن الميدان..
إما لأنه أخلد إلى النوم..
أو أنه تخلى عن وظيفته الربانية.. وأخل بشروط تحقيق الثقة بالله..
فيتحقق لغير المؤمن.. ما يخطط له.. تبعاً للسنن الربانية..
مثال على هذا النوع:
ثيودور هرتزل.. مؤسس الصهيونية العالمية.. ورئيس المؤتمر اليهودي.. الذي دعا إليه أكابر مجرمي اليهود في العالم.. في بازل بسويسرا عام 1897..
كان واثقاً من تحقيق حلمه.. ببناء وطن يهودي في فلسطين ..
ولكن هل هذا كان مجرد حلم.. أو رؤى خيالية.. أو مشروعاً على الورق..
لا أبداً:
إنه وضع خطة.. محكمة.. لتأسيس وطن يهودي في فلسطين ..
وافق عليها كل من حضر المؤتمر..
ثم بعد المؤتمر.. انتقل إلى الحركة الناشطة.. لتحقيقه..
فقابل القيصر الألماني مرتين.. بالرغم من كونه ولد في بودابست ( المجر).. وطلب منه المساعدة في تأسيس هذا الوطن ..
كما قابل السلطان عبد الحميد الثاني.. وطلب منه السماح له.. بشراء قطعة أرض.. في فلسطين.. لتحقيق المشروع اليهودي.. مقابل مغريات مادية.. وسياسية كبيرة جدا..
وكذلك قابل الحكومة البريطانية.. وطلب منها أيضاً المساعدة..
بعد كل هذه التحركات.. والإتصالات.. مع ذوي الشأن في العالم.. واختيار الطرق المؤثرة.. في تحقيق هدفه..
كانت لديه ثقة كبيرة.. في الوصول إلى الهدف..
لأن قراءته للواقع الميداني.. تعطيه الثقة..
وبالرغم من أنه مات.. في 1904 قبل رؤية مشروعه على الواقع..
إلا أن خلفاءه.. ساروا على دربه.. وهيأوا الظروف المناخية.. والسياسية لتحقيق ذلك..
أما الحماسة
فإنها غالباً.. ما تكون رعناء.. هوجاء.. طائشة.. تفور.. وتغلي.. وتزبد ثم تنطفىء..
وقد تكون صادرة من قلب متحرق.. ومخلص.. وصادق..
ولكنها زوبعة في فنجان.. ثم تتلاشى..
إذا..
كانت لا تستند.. إلى شروط الثقة.. التي ذكرناها آنفا..
وقد شاهدنا.. نماذج كثيرة منها.. خلال سنوات الثورة..
يظهر شاب.. يحمل الرشاش.. أو يقف على ظهر دبابة..
ويهدد بشار.. ويتوعده.. بأنه قادم إلى قصره.. وسيدوس على رقبته..
وذهبت التهديدات.. والعنتريات.. أدراج الرياح ..
بل إنه..
ما يُخزي.. ويسوء.. أنهم جميعا - إلا من رحم الله – هربوا.. وولوا الأدبار.. وتولوا يوم الزحف.. وتركوا حلب.. تُباد.. وتُغتصب نساؤها.. ويُحرق أطفالها...
هذه هي..
الحماسة الهوجاء.. الكاذبة.. الخداعة..
أما الواثقون بوعد الله.. والمحققون للشروط الثلاث.. الآنفة الذكر..
فإنهم صامدون.. لا يتلجلجون.. ولا يترددون.. ولا يفترون.. ولا يفرون.. من الزحف..
فهم حتى ولو قُتلوا.. فإنهم منصورون.. وفائزون بالشهادة..
( قُلۡ هَلۡ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلَّآ إِحۡدَى ٱلۡحُسۡنَيَيۡنِۖ )..
الأربعاء 15 ربيع1 1438
14 كانون1 2016
د. موفق مصطفى السباعي