في عالم باتت فيه الخصوصيّة شبه معدومة ومطروحة غالباً بشكل مبتذل بسبب الانفتاح المفرط، هل يمكننا بعدُ الحديث عن اختراق لخصوصيّة الآخر، ومراقبته والبحث عن أخطائه ونواقصه. وهل يمكننا بعدُ أن نحدّد بدقّة الأسباب الّتي تدفع الإنسان عامّة للتّدخّل بشؤون الآخر أو الّتي تدفعه للبحث عن الخلل عند الآخر؟
ولعلّنا في مجمعاتنا العربيّة نفتقد لاحترام خصوصيّة الآخر، ونعزّز في داخلنا اقتناص هفواته الصّغيرة كما أخطائه الكبيرة ونسعد بتداولها. ولعلّ هذا الأمر يعود لسبب رئيسيّ ألا وهو إخفاء مشاكلنا الشّخصيّة أوّلاً، فنُبعد الأنظار عنّا ونختبئ خلف أخطاء الآخر. كما أنّنا نودّ إظهار كمالنا المزيّف على حساب الآخر، فنسعى إلى إبراز مساوئه لنبدو وكأنّنا الأفضل والأكمل.
اقتحام خصوصيّة الآخر نابع من تدنّي مستوى الوعي لدى الفرد، وفراغ داخليّ يدفعه لاقتحام حياة الآخرين والتّدخّل بكلّ شاردة وواردة. كما أنّ هذا التّدني بمستوى الوعي يحول بينه وبين إدراك معنى احترام الآخر. فالاحترام يبدأ من النّظرة مروراً بالتّفكير وصولاً إلى النّتيجة الّتي تظهر بالسّلوك المنتقد للآخر بغضّ النّظر عن احترام إنسانيّته وخصوصيّته.
الوعي الإنساني يفترض أوّلاً احترام الآخر على كلّ المستويات، لا سيّما احترام حياته الشّخصيّة والاستئذان باختراقها ولو من بعيد. فللفرد حرّيّته في التفكير والتّعبير والسّلوك طالما أنّه لا يؤذي أو لا يسبّب إزعاجاً لأحد. وأمّا انتهاك حريّة الآخر فهو أشبه بسجنه وقد تسهم في انعزاله ووحدته.
الإنسان كائن اجتماعيّ بطبعه إلّا أنّه لحظة يشعر أنّه مراقب طول الوقت، وأنّ حياته منتهكة، يفضّل الانعزال عن الآخر ليعيش بسلام. من ناحية أخرى، قد يُدخل هذا السّلوك البعض في دوّامة عدم الثّقة بالنّفس، أو التّحسّب من أيّ خطوة أو فعل يُحتسب عليه والاحتراس من مواجهة الآخر. هذا الأمر مقلق ومتعب، ويعاني منه كثيرون خاصة ذوي الشّخصيّات الحسّاسة الّذين يودّون دائماً الظّهور بأفضل صورة ممكنة. فإذا تلمّسوا أيّ نقد من الآخر يقلقون ويضطربون، مع أنّه من المفروض تجاهل المتطفّلين وعدم إظهار ذي أهميّة لهم.
لكنّ الإنسان في مكان ما تُفرض عليه هذه النّوعيّة من الأشخاص، خاصّة إذا كانوا من الأهل والأقارب. فتمسي الحياة صعبة لضرورة وجودهم من ناحية، وصعوبة مواجهتهم ومنعهم من التّدخّل في الأمور الشّخصيّة من ناحية أخرى. فتدخّلهم ليس إلّا فضولاً مبتذلاً يعزّز في داخلهم راحة ما، يشعرون بها عندما يسبّبون الحرج للآخر. وذلك يعود لعدّة أسباب نفسيّة تدفعهم للسلوك بفضوليّة قد تصل إلى التّسبّب بخلافات عدّة.
لا ريب أنّه ينبغي تفهّم هؤلاء الأشخاص مع عدم تبرير فعلهم، وذلك لنقص الوعي عندهم، والفراغ الدّاخليّ الّذي يجتاح أعماقهم. ناهيك عن الأسباب الاجتماعيّة والنّفسيّة الّتي تجعلهم يختبئون خلف سلوك الآخر وانتقاده ليخفوا مشاكلهم الشّخصيّة. إلّا أنّه علينا ألّا نسمح لهم بتخطّي حدودهم، ونفرض حدوداً تمنعهم من انتهاك حرّيّتنا الشّخصيّة، والعبث بحياتنا، أقرباء كانوا أم غرباء. ولا نخافنّ من ردّة فعلهم، أو نظرتهم لنا. فبقدر ما نردعهم ننعم بحريّتنا وثقتنا بذواتنا، ولعلّنا نساعدهم على تخطّي هذا السّلوك الفضوليّ المؤذي والمقلق.
مادونا عسكر/ لبنان