كل بيوت العرب سواسية أمام أسنان البولدوزور

بقلم: جواد بولس

بعض هواة عملية "النق" الوطني المزمن نزعوا إلى تهميش قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية، الذي صدر بقبول قاضيين التماسَ مؤسسة "عدالة" المقدم بالنيابة عن عائلة المرحوم الأستاذ يعقوب أبو القيعان، ضحية رصاص أفراد شرطة إسرائيل.
وحجة هؤلاء بإبطال الغرابة في القرار وإيجابيته تعتمد على "الطبيعي" في حياة البشر وعلى "البديهي" في سلوك المجتمعات الإنسانية، التي تضمن حق دفن الميت بدون معوّقات، وإجراء جنازة له بدون مهانة ومن غير شروط مقيدة وقاهرة.
لو كنا في إسرائيل نعيش في واقع يسوده المنطق الإنساني العام، وتتحكم في فضاءاته القيم والأخلاق الحميدة، لما اضطرت أصلًا العائلة الثكلى بالتوجه إلى القضاء والمطالبة باسترجاع جثمان غاليها المقتول عمدًا وغدرًا، وبإجراء جنازة عادية له، كما يليق براحل مضى فأضحت عائلته بدون رب يرعاها وبيت يأويها، لكننا نواجه في الحقيقة، نحن المواطنين العرب، قدرنا بقضائيه الأهوجين، واحد "يحطه السيل علينا من عل"، وآخر يحيطنا كالأشباح تسعى لقبض أرواحنا بلا هوادة ومسح وجودنا بلا رأفة.
قرار المحكمة العليا الإسرائيلية كشف مجددًا بعض التناقضات الوجودية التي تعيشها الأقلية العربية من جهة، والاشكالات الجوهرية التي تواجهها مؤسسات الدولة، خاصة جهازها القضائي، من جهة أخرى، لاسيما فيما يتعلق بمكانة هذه الأقلية ومصير ومستقبل العلاقة بينها وبين كيان الدولة ورغبات الأطراف الملتبسة دومًا وتراقص "بناديلها" بين نقطتين قصيتين: الإدماج المبهم والإقصاء العصي.
من يراجع بتمعن قرار المحكمة قد يكتشف بعضًا من معالم تلك المفارقات وكيفية تعاطي القضاة معها ومسوغات تفكيكهم لها. بعض التفاصيل، إن فحصت بعيون منقبة ومجربة، قد تبدو كومضات في سمائنا الناعسة وقد تصير مرشدًا لسراة يجيدون قراءة الليل ولغة العواصف، أو على النقيض، مهلكة لمن سينتظرون فجرًا لم تغوه صياحات الديكة المتشاوفة، فنام وتأخر.
كتب القاضي يتسحاك عميت القرار الأساسي، وسآتي لاحقًا على ما أورده كدعائم لقبوله موقف الملتمسين، بينما عارضه القاضي سولبرغ، وهو "المستوطن" في غوش عتصيون، الذي أثار تعيينه عام 2012 قاضيا في المحكمة العليا مشكلة، واستجلب انتقادات كبيرة في أوساط إسرائيلية ودولية، اعتبرت قرار لجنة التعيين تحديًا من المؤسسة السياسية اليمينية لموقف الأمم المتحدة وللقانون الدولي الذي عرّف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة كجريمة حرب، بينما يبقى موقف القاضي أوري شوهم وانضمامه لقبول التماس العائلة المصابة لافتًا، إذا ما عرفنا أنه شغل في الماضي منصب المدعي العسكري العام في إسرائيل.
لن أتطرق باستفاضة إلى ما يعنيه هذا القرار وما تعكسه حيثياته من الناحية القانونية، رغم أهمية هذا البعد، لكن الحدث كما تجسد بأبعاده كلها يبقى بمثابة المشهد الشاذ (الأنومالي)، الذي ينبعث على خلفية تداعيات تراجيدية تنذر باحتمال سقوط الذرى وضياع الدم في القيعان.
نيابة الدولة العامة عملت على إقناع المحكمة بقبول موقف الشرطة وأذرع الأمن التي أصرت على أن السماح بإقامة الجنازة من غير شروط سيمس بأمن وسلامة الجمهور، وكأنها تستكمل إيقاع فرضية مفادها أن العرب لا يجيدون ممارسة الحزن، إلا من خلال تحويله حجارة تقذف على الناس المسالمين، وعنفًا يتبعثر على الطرقات والمفارق؛ إنها النهاية الحتمية لما بدأ ككذبة مرة وافتراء شيطاني صار بأعقابه المربي المسالم مخربًا، والأب المكافح داعشيًا، والحقيقة عذراء مغتصبة، والرمل أخرس والعيون حولاء والسماء عاقرا.  
لا أعرف إذا حاول القضاة، قبل إجازتهم للجنازة، أن ينتقلوا ويجلسوا للحظة بجانب يعقوب أبو القيعان، ليروه وراء مقوده وهو مصاب وعاجز عن الحركة، دمه القاني يتصبب كبكاء برقوقة حزينة فقدت تراب حوضها؛ كان يجيل بناظريه ويرى حوله أعدادا من الدمى اللحمية التي تشبه الضفادع السوداء الضخمة، تقفز في الهواء كي تصطاد أسرابًا من الفراش الملون والحساسين، وقبل أن يغمض عينيه لمح من بعيد وجه رفيقة دربه تتقدم غزالين أو أكثر فطيّر لهم قبلة وقلبًا ومال كي ينام، فتذكر وجه أمه السمراء ومد يده ليمسح عن خدها دمعة. انطفأ. اتكأ على حلمه وغاب.
أغمِضوا عيونكم وتخيلوا كم هو مرعب هذا الرعب، وتخيّلوا كيف فارق يعقوب هذه الصحراء المضطجعة على حربة، ومن ترك وراءه ليسود على أرض اليباب التي عشقها. سأسال القضاة، ذات يوم، إذا فعلًا وجدوا يعقوب باسمًا، كما كانت تقول الرملة لأختها، أو عابسًا كما وشت الغيوم للهضاب.
"إننا نعي أن الأجواء مازالت صاخبة، وهنالك حساسية وتوتر قد يستغل من قبل جهات متطرفة.."، هكذا كتب القاضي عميت في قراره متعرضًا لادعاءات الشرطة ومخاوفها، لكنه أضاف معللا رفضها قائلًا: "مع هذا أذكّر بالمفهوم ضمنًا، فالجنازة ستقام في النقب، وفي نطاق دولة إسرائيل، عائلة المرحوم تتبع للطائفة البدوية التي يعتبر أبناؤها مواطنين اسرائيليين محافظين على القانون، لا بل يخدم بعضهم في أذرع الأمن، ولم نسمع ولا حتى صوتا واحدا منهم يمتدح عمليات الدهس..".
لم يكتف القاضي بما ذكرناه أعلاه فأضاف أن المحكمة سجلت أمامها تعهد العائلة ورؤساء سلطات منتخبين وأعضاء الكنيست التزامهم بالمحافظة على الهدوء العام خلال تقدم مسيرة الجنازة، وعدم سماحهم لأي كان بتسخين الأجواء والإخلال بالنظام العام.
لقد طالبت الشرطة تقديم بينات مكتومة في محاولة منها للاستفراد بالقضاة والتأثير عليهم لقبول موقفها، كما يجري عادة في الملفات ذات الصبغة الأمنية أو التي تعالج قضايا المواطنين الفلسطينيين في الضفة المحتلة وقطاع غزة.
كان اعتراض الدفاع على تلك المحاولة موقفًا صحيحًا ومشرفًا، أدى بلا شك إلى زج القضاة في خانة صعبة، لاسيما بعدما صمد مدير مركز عدالة المحامي حسن جبارين أمام ضغوطهم، مؤكدًا على أن الملتمسين وهيئة الدفاع عنهم لا يحفظون لهذه الشرطة عهدًا، ولا يثقون بتقيماتها السرية، وهي التي جرّمت علنًا الضحية ساعة كان دمها ينزف، وقبل أن تباشر باستقصاء الحقيقة واستجلائها. لقد رفض قاضيان اعتبار جنازة ضحية لمواطن في الدولة حدثًا خارجًا عن ذلك العقد الذي يجب أن يكون ممدودًا بين الدولة ومواطنيها، فنحن لا نعيش تحت حكم عسكري ولا في ظروف احتلال.      
قد يتحول هذا القرار إلى محطة مهمة على طريق قدرة المواطنين العرب في مقارعة سياسة الحكومة قضائيًا، ففيه ما يدل على استشعار بعض قضاة العليا بالخطر اليميني البوليسي الداهم كالسيل، الذي سيقوض مكانتهم ويقتلع وجودهم تمامًا كما تقتلع الشفرات بيوت أم الحيران وقبلها بيوت قلنسوة، وبالمقابل فقد يصبح صوت القاضي سولبرغ هو الصوت الذي لن يعلو فوقه صوت في الشوارع وفي المحكمة العليا، فتصير شريعة الاستيطان هي القضاء وما يقوله رصاص الشرطة هو القدر.
لقد أكثرت في الماضي من انتقاداتي لقرارت المحكمة العليا، التي لم تسعف متظلمًا فلسطينيًا قرع أبوابها، بل وقفت دومًا في الخطوط الأولى المدافعة عن الاحتلال وسياساته، وآثرت ما أدعته أجهزة الأمن كذرائع سوغت قمع الفلسطينيين وحرمانهم من أبسط حقوق معيشتهم الأساسية، وما زلت أرجح ظني بأن المحكمة خسرت معركتها أمام جحافل اليمين المهاويس، مع هذا لابد أن نقرأ قرارها في قضية "أبو القيعان" بتوجه إيجابي وثاقب، فهو رغم محدوديته يشكل هامشًا ضيّقًا يتيح لنا، نحن المواطنين العرب في الدولة، فرصًا علينا دراستها وتطويرها، خاصة اذا فككنا ما عده القاضيان كأسباب دفعت بهما إلى رفض مطالب الشرطة، وأهمها تلك الثقة التي أولياها لموقف القيادات العربية واحتساب مكانتها ووزنها في الشأن العام وفي الأحداث والساعات المفصلية.
صرخات أهل النقب عمومًا وأم الحيران خاصةً هي صدى لصراخ أهل قلنسوة التي ما زالت تئن تحت ركام بيوتها المهدومة، وهي تذكار لكل عربي لا ينام في المغار ويركا وكفركنا والجش وغيرها، من خشية "دبيب" البولدوزورات التي لا تكل ولا تفرق بين عربي وعربي، لا بلون عينيه ولا بنوع عمامته ولا بعلو رتبته في "الخدمة" أو في الحقل والمحجر.
إننا نشهد معركة أعادت تفاصيلها الينا بدايات سير العبث بأصنافه، وذكرتنا مجددًا بمصانع الكذب والوجع ومفاعلات تكريرها، لكنها معركة وحد ظلمها، كذلك، كل الضحايا وبعثت هوامش ضيقة في حياة أقلية نجحت إسرائيل بتفتيت بعض عظامها وتفريقها لملل وطوائف، ولايجابيين وسلبيين، هوامش، رغم هشاشتها وندرتها، تفوق أهميتها، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار جميع المعطيات التي نواجهها، أهمية جادات الأشقاء العرب وأوهامها الموجودة في القصائد والأماني، وكرم اوتوسترادات بعض العواصم التي لن تفضي دروبها إلى بر قريب وواضح وآمن.
مياديننا ستبقى في أم الحيران وقلنسوة والمغار، ووحدة الضحايا ضرورة وقدر يفتش عمن سيسعى ويزيل جميع ما يعوق بناءها، وتذكروا أن بعض معوقاتها نمت وتعيش بيننا وفي مؤسساتنا ومواقعنا.  

 جواد بولس
كاتب فلسطيني