الإنتخابات التركية التي قاربت فيها نسبة التصويت على (80 )%،أتت في ظل حالة الطوارىء التي اعلنها أردوغان في منتصف تموز/2016،عقب عملية الإنقلاب المدبرة،والتي استتبعها شن أردوغان لحرب شاملة على خصومه بالإعدامات والطرد من الوظيفة والإعتقال،وخاصة في المؤسستين العسكرية والتعليمية وجهاز القضاء،وكذلك إعلان حالة الطوارىء والأحكام العرفية ومصادرة الحريات. واضح بأن هذه الإنتخابات ستقود تركيا الى اكبر عملية تغيير في نظام الحكم منذ تأسيس الجمهورية التركية،وأيضاً المعطيات والوقائع تشير إلى ان هذه الإنتخابات ستقود تركيا نحو المزيد من الإستبداد والعسكرة،والى الإنقسام الحاد المجتمعي الداخلي ما بين انصار العلمانية،إرث كمال اتاتورك،وما بين انصار اخونة وأسلمة المجتمع التركي،إعادة الإرث العثماني،حيث ان أردوغان يطمح من خلال هذه الإنتخابات بان يصبح الخليفة والحاكم بامر الله بلا منازع وبسلطات مطلقة،فالتغيير الحاصل في الحكم يعني تحول تركيا من نظام برلماني الى رئاسي،يمتلك فيه أردوغان "تغولاً" كاملاً في المجالات التنفيذية والتشريعية بشكل مطلق،ناهيك عن دوره الكبير في رسم السياسات الداخلية والخارجية،واهم شيء إعلان حالة الحرب وشنها.
رغم تدني نسبة المصوتين الذين قالوا فيها بنعم للتعديلات الدستورية،وطعن بعض احزاب المعارضة في نتائج التصويت،وقول المدن الرئيسية انقرة واسطنبول وازمير بلاء للتعديلات الدستورية،إلا ان تركيا ستكون امام الكثير من التحديات الجسام على الصعيدين الداخلي والخارجي،وكذلك الأوضاع الناشئة ستدفع بالبلاد نحو حالة من عدم الإستقرار،والتراجع في النمو والإستثمارات الإقتصادية،والى المزيد من الخلافات والتوترات والأزمات مع اوروبا وامريكا ودول الجوار.
أردوغان وحزبه استحضروا واستخدموا النعرات القومية والفتاوي الدينية،من اجل كسب تصويت الناخبين على التعديلات الدستورية،ولعل الجميع يدرك الأزمة التي افتعلها أردوغان مع هولندا على خلفية منعها لوزيرين تركيين من الهبوط في مطاراتها وإتهامات أردوغان لها بالفاشية،وكذلك تجيير واستخدم الدين لخدمة الحزب والحاكم،فقد أفتى مفتي المرجع الديني لحزب العدالة والتنمية التركي على ان هذا التصويت،هو فرض عين على كل مسلم لصالح التعديلات الدستورية،وهو فرز بين من هو وطني وغير وطني ومن هو مسلم ومن هو كافر.
الهدف عند أردوغان وجماعة الإخوان المسلمين من هذه التحولات الكبيرة والعميقة في نظام الحكم التركي،كما هو حال الإخوان ونظام الرئيس المصري السابق مرسي،عندما فاز الإخوان المسلمين في الحكم،هو اخونة الدولة والمجتمع والسلطة والسيطرة على كل مفاصل الحياة،والإنقلاب الجذري على تراث كمال اتاتورك العلماني،مؤسس تركيا الحديثة،وإعادة الإرث العثماني التركي "نظام الخلافة"،وهذا التحول يعني بان أردوغان سيشن حرباً لا هوادة فيها على خصومه واعدائه في الداخل والخارج،حتى من أقرب المقربين إليه،دواد اوغلو وزير خارجيته السابق وفتح الله غولن وعبدالله غول نماذجاًً.
ماذا يعني هذا التحول...؟؟
التحول من النظام البرلماني الى النظام الرئاسي،يعني بانه لن يكون هناك منصب رئيس وزراء،والرئيس هو صاحب الصلاحية المطلقة في تعيين الوزراء،والسيطرة على كل مؤسسات الدولة والجيش والمؤسسة القضائية والمحكمة الدستورية،يعني هو الحاكم بامر الله،ورغم كل هذا التغيير الحاصل في طبيعية نظام الحكم،فاعتقد بان أردوغان الذي سيطر حزبه على البرلمان منذ عام 2002 يمارس هذه الصلاحيات والسلطات والأدوار،ولكن الان أصبحت مقوننة ومشرعنة.
هذا الفوز قد يعطي دفعه معنوية وسياسية لأردوغان بعد الإنقلاب الفاشل عليه،ولكن لا اعتقد بان أردوغان سيعمل على تحويل تركيا الى دولة فيدرالية على غرار امريكا والعديد من الدول الأوروبية،فهناك القضية الكردية والخوف من قيام كيان كردي مستقل على حدود تركيا وفي عمق أراضيها،وهناك احزاب تركية تعارض بشده منح الأكراد حكماً ذاتياً،وكذلك حالة عدم الإستقرار القائمة في الدول المجاورة سوريا والعراق تصعب من هذا الخيار وتشكل قيداً على أردوغان للسير فيه.
تركيا الان ليست ما كانت عليه في 2002 وسيطرة حزب العدالة والتنمية على الحكم في تركيا،وما تحقق من نمو اقتصادي كبير،وإستقرار وامن داخليين،وعلاقات حسن جوار مع دول المحيط،والعودة الى البوابة العربية والإسلامية،وصفر مشاكل مع الجيران. تركيا الان اوضاعها متازمة على كل الصعد،حيث هذه الإنتخابات والسعي لتصفية إرث كمال اتاتورك مؤسس تركيا العلمانية،يقود الى صراعات وخلافات داخلية كبيرة،وكذلك أروغان المصاب بهوس وجنون العظمة سيقود الى تحول تركيا الى دولة فاشية،قد تحفر قبرها بيدها كما حصل مع المانيا في عهد هتلر والنازية،وايطاليا في عهد موسوليني والحزب الفاشي،أي بمعنى أن موجة التفتيت والتقسيم التي تجتاح المنطقة بفعل المشاريع الأمريكية،والتي تشارك فيها تركيا،حيث طموحات الخليفة أردوغان بإقتطاع جزء من الأراضي السورية والعراقية لصالح دولة الخلافة التركية،فقد دخلت القوات العسكرية التركية عنوة الأراضي العراقية والسورية لدعم ومساندة الجماعات الإرهابية،وبالذات "داعش" و"جبهة النصرة".
وبسبب تدخلات تركيا وزج جيشها في الحرب الدائرة في سوريا والعراق،وما نتج عنها من تازم في العلاقات التركية – الروسية،بسبب اسقاط المقاتلة الروسية من قبل الطائرات التركية في تشرين اول 2015،وما تبعه من عقوبات روسية على تركيا،والتبدلات في المواقف التركية المستمرة من القضية السورية،والخلافات مع امريكا بعد قضية الإنقلاب الفاشل،واتهام امريكا بالتستر على فتح غولن المتهم من قبل أردوغان بقيادة الإنقلاب،والخلافات حول المنطقة الامنة في سوريا،والدعم الأمريكي للأكراد،وتصاعد الخلافات مع المانيا على خلفية القضية الكردية.
هذه العوامل يضاف لها هذا التغيير ذو البعد الإستراتيجي،يعني تصاعد حدة الخلافات مع الإتحاد الأوروبي وطلاق نهائي مع خيار انضمام تركي الى هذا الإتحاد،بإختصار أردوغان يواجه ازمات سياسية مع جميع دول الجوار،ويخوض حرباً على أكثر من جبهة مع الأكرد ومع ما يسمى ب"الدولة الإسلامية" شريكته السابقة في سرقة النفط السوري والعراقي ومصانع حلب،والوضع الإقتصادي الذي كان أبرز نجاحات أردوغان وحزبه،يواجه أزمات كبيرة،بل يوشك على الإنهيار،حيث الليرة التركية فقدت (50)% من قيمتها،والنمو الإقتصادي انخفض من ما يقارب ال(7)% الى حوالي (3)% والبطالة وصلت الى ارقام قياسية بين الشباب فوق ال(20)% وبالعام لا تقل عن 11- 12 %،وتوتر علاقات تركيا مع جيرانها والإقليم والمحيط،دفع بالكثير من الإستثمارات الخارجية الى الهروب.
هوس أردوغان وجنون عظمته،التي أودت بحياة القذافي وقبله كل المهووسين،وسعيه الى تصفية إرث كمال اتاتورك،والسيطرة المطلقة على السلطات ومؤسسات الدولة والجيش والقضاء والتعليم ،وملاحقة وتصفية معارضيه في الداخل والخارج وضرب ومصادرة الحريات،كل هذا سيدفع نحو المزيد من التأزم وعدم الإستقرار الداخلي سياسيا وامنياً،وتراجع حاد في النمو الإقتصادي،وكذلك تازم علاقات تركيا مع دول الجوار والمحيط،وكذلك مع اوروبا والإتحاد الأوروبي وامريكا وروسيا وايران،والمصير الذي حل بمرسي في مصر،ليس مصير أردوغان بالبعيد عنه،فهو يسير الى نهايته بأفعاله ورجليه.
بقلم/ راسم عبيدات