تمخض الجبل فولد فأراً ،،، "حماس" ووثيقتها الجديدة وطردها من قطر

بقلم: رائف حسين

نشرت وسائل الاعلام العربية مطلع شهر مايو الماضي فحوى الوثيقة السياسية الجديدة لحركة المقاومة الاسلامية في فلسطين " حماس". التي اثارت نقاشاً حيويا بين صفوف الداعمين للحركة وبين فلول معارضيها وبين الطرفين، معارضون وداعمون، ايضاً.

هذا كان امرا متوقعا بعد ان مضى حوالي ثلاثين عاما على إصدار الميثاق الاول لحماس وشحاحة، لا بل إنعدام، العطاء الفكري الذي لازم الحركة منذ نشوءها وحتى هذه اللحظة.

انقسم التقييم بين وصف الوثيقة الجديدة بالهجوم السياسي البراغماتي لـ"حماس" واثبات قاطع على واقعيتها السياسية وقدرتها على التعاطي مع المتغيرات بموضوعية وحس وطني عالي، وبين من وصف الوثيقة بالتراجع عن المبادئ وانكار الأصل والالتحاق بمشروع الحركة الوطنية الفلسطينية الممثلة بفصائل "م. ت. ف" الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وبين من قال ان الوثيقة لم تأت بسياسة جديدة ولن تثمر بشيء.

في مقالي هذا لن أكرر ما جاء في تحليل الطرفين، المؤيد والمعارض، لمواد الوثيقة التي اتت في 42 بنداً، ليس لقلة أهميتها بل لان ما أتى في الوثيقة من مواد هو أشبه بالتوجه العام منه بالتفصيل المتوقع والمطلوب بعد كل هذا الوقت وبعد ما آلت اليه الحالة الفلسطينية من شرذمة وانقسام وانحصار في مركزيتها كقضية الشرق الاوسط الاساسية.

بنود الوثيقة كلها كان قد عبرت عنها ونشرتها قيادة "حماس"، خصوصاً مكتبها السياسي ورئيس مكتبها السياسي السابق خالد مشعل في العديد من البيانات السياسية واللقاءات الاعلامية.

المتابع لحركة "حماس" وعملها السياسي على مدار الثلاثين عاما الماضية لا بد له الا ان يصل لمثل هذه القناعة وربما اكثر. لهذا كان استغرابي ‏واندهاشي لما صرح به رئيس المكتب السياسي السابق لـ"حماس" حول الوثيقة والجهد الذي صرف لأعدادها وقال ان اعداد هذه الوثيقة بدأء في سنة 2013 واستمر اربع سنوات كاملة منها سنتان استشارة قانونية ومراجعة لمختصين.

 ما يهمني في هذا المقال هو توضيح وتحليل طريقة اخراج هذه الوثيقة وموعد نشرها وعلاقتها الاستراتيجية مع ميثاق "حماس" وما ارادت قيادة "حماس" الوصول اليه من هذه الوثيقة.

 الآن وبعد اربع أسابيع من نشرها بدأت "حماس" تجني ثمارها وتحصد ما زرعته. الثمار ليست فقط حلوة بل منها ايضاً ثمار مرة كالعلقم والحصاد ليس فقط قمح بل به "زوان" وشوائب مختلفة.

 بداية لا بد من التنويه الى أمور أساسية في خطاب "حماس" ومن قبلها خطاب التنظيم الام؛ تنظيم الاخوان المسلمين وكل حركات الاسلام السياسي التي انبثقت كالفطر منذ عشرينات القرن الماضي.

-اولا: الاسلام السياسي ومن ضمنه حركة "حماس" يُسقِط عمداً البعد التاريخي للوقائع والاحداث ويسلخها عن سيرورتها التاريخية. هكذا كانت قرائتهم للقرآن الكريم كما فعل سيد قطب ومن قبله ابو العلاء المودودي ومن خلفهم من مشايخ وقادة.

هم اسقطوا البعد التاريخي للنص وانكروا ان هنالك قصص قرآنية وأساءوا للدين الحنيف أشد سوء وها نحن في الشرق نجني ثمار هذا الأذى بحركات الارهاب المتأسلم التي تعتمد قراءتهم وتفسيرهم الناقص للنص الإلهي. و"حماس" تغتصب التاريخ الفلسطيني منذ قيامها وحتى هذه اللحظة هكذا كان بالتفافهم ومصادرتهم لاسم وتاريخ قائد الثورة الأول الشيخ عز الدين القسام وآخرون وهي ما زالت ومنذ ‏اليوم الأول لتأسيسها تعاير الفصائل الفلسطينية ببعض ما صدر عنها من مواقف سياسية اجبرت عليها بالحتمية التاريخية والواقع السياسي في اللحظة التي صدرت بها هذه المواقف والبرامج.

-ثانيا: "حماس" وحركات الاسلام السياسي كلها تسيء للتاريخ العربي المجيد بترويجها الغير منقطع لحضارة ناقصة مبتورة وكأن تاريخ العرب ومجدهم وحضارتهم بدأت في القرن السادس بظهور النبي محمد صلعم. هم يتناسون عمداً ما كان من حضارة عربية عريقة قبل الاسلام وما زرعه الغير مسلمون من بذور حضارية نبتت وترعرعت وما قدموه من قول وفعل حضاريين للحضارة العربية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا وما زال عطاء هؤلاء الغير مسلمين نجم ساطع في الحضارة العربية.

هم، "حماس" وحركات الاسلام السياسي بألوانه المختلفة، يحاولون اخباء أشعة الشمس بالغربال، كما يقول المثل العربي الفلاحي، وللأسف الشديد نجحوا ‏بزرع قراءتهم المبتورة لتاريخ الحضارة العربية في رءوس عشرات الملايين من البشر في العالم العربي والعالم الإسلامي.

"‏حماس" تصور في أدبياتها وكأن الثورة الفلسطينية ومقارعة الاحتلال بدأت بنشأت وبناء "حماس" وما كان من قبلها من نضال كان عبثا ووهم ولم تكتمل صورة النضال ولم ينضج برنامجه النضالي، الا بعد ظهور "حماس" على الساحة الفلسطينية ونشر ميثاقها. ‏هم تناسوا عمدا أنهم ابتعدوا وامتنعوا عن محاربة الاحتلال منذ بدايته وحتى ان انطلقت شرارة الانتفاضة الأولى في ديسمبر 1987. ‏وليس هذا فقط بل هم كنوا عداء لفصائل المقاومة الفلسطينية وحرضوا وسخروا من عملها النضالي ضد الاحتلال ‏مع مجتمع لم يكتمل أسلامه كما كانوا يدعون.

"حماس" وحركات الإسلام السياسي كلها يجب ان تعي حقيقة علميه كونية بأنه بإمكانك أن تُزّٓور قول او بيان سياسي أو ان تفسره كما تشاء وبما يتمشى ورغبتك السياسية، لكنك لن تستطيع أن تزور تاريخ الأمة والشعب المكتوب والذي يشهد عليه مئات الملايين من البشر ومئات الأبحاث والكتب

عوده بنا الى الميثاق والوثيقة وتحليلهما.

في تقييمي إن الوثيقة الجديدة لحركة "حماس" ليست بتكملة أو توضيح للميثاق كما يدعي البعض.

الوثيقة هي البرنامج السياسي الاول لـ"حماس" وأول وثيقة توضح توجهات الحركة السياسية وهي تختلف عن الميثاق بالهدف والتوجه وعنوان المخاطبة وسبب الصدور.

الميثاق الذي صدر في اغسطس 1988 برأيي هو البرنامج الأيديولوجي لحركة "حماس" وهو بعيد كل البعد من ان يكون برنامج سياسي.

الميثاق هو ما يسمى بعلم السياسة " Manifest "، الميثاق اتى كخطاب ديني موعظي أيدلوجي به تعرف "حماس" بهويتها الأيديولوجية ‏وانتماءها الأيديولوجي لحركة الاخوان المسلمين ولتقييمها لنوعية الصراع مع الاحتلال ‏والتي ترى به صراعا دينيا وليس صراعا كولونيالياً استعمارياً، مما يفرقها عن الخطاب الوطني الفلسطيني المجمع عليه والذي على اساسه تم الاعتراف بـ" م ت ف" كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني. كما وإنها تضع اولوياتها الأيديولوجية بالتعريف باسمها، فهي ‏أولا حركة إسلامية وثانيا عربية وفي نهاية المطاف هي فلسطينية وهذا دليل قاطع على أولويات الحركة الأيديولوجية وتوجهاتها وارتباطاتها والتزاماتها.

هنا لا بد من الانصاف في هذا السياق بالاشارة الى ان حركة "حماس" كانت صادقة كل الصدق في الثلاثين عاما الماضية ‏في أولوياتها الاستراتيجية وعملها السياسي.

لقد اتضحت هذه الأولويات والقاعدة الأيديولوجية المتينة وأولوياتها الاستراتيجية في ما يسمى بالربيع العربي وانحرافها عن مسارها القديم وعن تحالفاتها التكتيكية الآنية التي حاولت أن تظهرها وكأنها هي التوجهات التحالفية الأيدلوجية الحقيقية لها في السنوات التي سبقت الربيع العربي. ‏

في بدء قطاف الإخوان المسلمين في تونس ومصر ثمار ثورة الشباب والشعب التي حرفوها عن مسارها وسيروتها لخدمة مشروعهم الاخواني المتمشي مع رغبات تركيا الاخوانية وحلفاءها بالخليج وداعميها في الغرب وباعتلاء الاخوان سدة العرش في البلدين. خلعت "حماس" قناعها وأظهرت وجهها الحقيقي واصطفت في الخانة الأيديولوجية التي عرفت بها نفسها في الميثاق وعادت الى اصلها بعد تمويه طال سنوات.

" حماس" ومنذ انطلاقتها قبل حوالي ثلاثون عاما وهي تحاول ان تقدم نفسها بديل عن "م ت ف" وليس مكمل لها رغم الغزل السياسي الموجود بالميثاق والذي أعادت حماس تكراره وأتقنت تقديمه للتمويه عن نواياها الخفية عبر بياناتها السياسية المختلفة.

"حماس" حاولت مرتين تقديم نفسها بديل لقيادة الشعب الفلسطيني ووريثاً لـ" م ت ف". المرة الاولى بعد التوقيع على اتفاق اوسلو وفي احدى اجتماعات التحالف العشري للقوى الفلسطينية التي عارضت "اوسلو" والذي انعقد في دمشق وآنذاك تصدى لها اليسار الفلسطيني وعلى راْسه الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والمرة الثانية في بيان صحفي قدمه رئيس المكتب السياسي السابق لحماس خالد مشعل في الدوحة.

"حماس" ما زلات ترقص على الحبل باستراتيجية سياسيه واضحة وهي تصدر قيادة الشعب الفلسطيني وهذا حق مشروع لكل حركة او حزب فلسطيني. المرفوض ليس الاستراتيجية بحد ذاتها، بل تكتيكات هذه الاستراتيجية واخراجها التي تتبعها "حماس" والتي عرضت المشروع الوطني الفلسطيني لخطر كبير انتهى بالانقسام المشؤوم والذي يدفع ثمنه الغالي للشعب الفلسطيني منذ سبع سنوات.

بعد فشل محاولات تجاوز "م ت ف" والاجهاض عليها بالتعاون مع قوى اقليمية وعربية عادت "حماس" الى تكتيك الانقضاض على مؤسسات الحركة الوطنية الفلسطينية من الداخل. وحضرت لهذا التكتيك ببيانات عديدة بدأت بالمطالبة بدخول "م ت ف" بشروط تعجيزية بعيدة عن الواقع وانتهت بالمطالبة باصلاح مؤسسات "م ت ف" وانتخاب اعضاء المجلس الوطني الفلسطيني مباشرة دون ان تضع آلية واضحة لهذه الانتخابات ومعارضتها لاقتراحات اليسار الفلسطيني بإجراء انتخابات كاملة شاملة لجميع مؤسسات الشعب الفلسطيني وفق قانون النسبية الكاملة والأكثر ديمقراطياً وأكثر تلبية لحاجة الشعب الفلسطيني لوحدة الصف لمواجهة التحديات الجمة.

 بدأت "حماس" بالاعداد لبرنامجها السياسي الجديد المسمى وثيقة، كم صرح به العديد من قادتها، قبل سنوات، اي بعد انقلابها على حلفائها الاساسيين من ايران وسوريا وانتقالها الى حضن الاخوان، التنظيم الام، بقيادة كل من تركيا وقطر واتت الوثيقة ترجمة واضحة لسياسة هاتان الدولتان تجاه اسرائيل التي تربطهم بها علاقات اقتصادية وعسكرية وسياسية متينة.

إن قيادة "حماس" استجابت بأكثريتها للضغط القطري التركي وانتقلت من الغزل السياسي الى البرنامج السياسي واضح المعالم. بل وعملت "حماس"  وفقاً للمثل الفلاحي القديم القائل: "من يأكل من خبز السلطان عليه ان يضرب بسيفه".

إن ما اتى في وثيقة "حماس" من نقاط سياسية اعتبرها البعض من الزملاء بهزة كبيره، كانت قد عبرت عنه قيادتها ممثلة بخالد مشعل في اكثر من مناسبة لكن كان يصعب عليها وضعه ببرنامج متكامل واضح خوفاً من المعارضة الداخلية لهذا الخط والتي يقودها الدكتور محمود الزهار مدعوماً من اكثرية الذراع العسكري لـ"حماس" في غزة وخوفاً من انقسام في صفوف الحركة الذي ظهر مراراً للعيان خصوصاً بعد الانقلاب بغزة وبعد تغيير التحالفات الإقليمية للحركة.

الان وبعد ان سلمت الحركة كل اوراقها السياسية لحلفائها من قطر وتركيا وأصبحت إمكانية الانقسام في الظروف الإقليمية والداخلية الفلسطينية شبه مستحيلة اقدمت قيادة "حماس" على عرض هذه الوثيقة.

الوثيقة لا تتعارض مع برنامج "م ت ف" بأي نقطة أساسية وهذا مقصود من "حماس" لكي لا تقطع شعرة معاوية بينها وبين الشرعية الفلسطينية ليتسنى لها، ان فشل مشروع الاخوان بالشرق الاوسط نهائياً، ان تعود للمطالبة بالدخول في "م ت ف" ومحاولة الانقضاض عليها من الداخل.

"حماس" تدرك المأزق الحرج الذي وصلت اليه "م ت ف" وتهميش مؤسساتها عمداً من الطرف المتسلط عليها وتداخل مؤسسات السلطة بها والضياع الاستراتيجي الذي تعيشه الحالة الفلسطينية لتظهر بنهاية المطاف بالمخلص للحالة الفلسطينية من التشرذم والانقسام.

الإفصاح عن الوثيقة ايام معدودة قبل انتخاب اسماعيل هنية رئيس للمكتب السياسي لـ"حماس" خليفة لخالد مشعل كان مقصود ايضاً. قيادة "حماس" لم تريد ان تظهر وكأن القيادة السياسية الجديدة من اسماعيل هنية والسنوار بدءوا مرحلة جديدة من السياسة الواقعية بعد استلامهم زمام الامور فكبلوا القيادة الجديدة ببرنامج سياسي كما تم الاتفاق علية في مجلس الشورى العالمي للإخوان المسلمين وبرضى ومباركة قطر وتركيا.

قيادة "حماس" لم تريد ان تخرج من تحت عباءة الاخوان المسلمين، كما فعلت حركة النهضة في تونس بقيادة الغنوشي وابقت القرار النهائي الحاسم في الامور المفصلية بيد مجلس الشورى العالمي للإخوان كما فعلت عندما أصدرت ميثاقها سنة 1988 وكما اتخذت قرارها بالمشاركة في انتخابات السلطة عام 1996 وكما كان القرار بالانقلاب في غزة عام 2006.

إن قيادة "حماس" قرأت الخارطة السياسية الإقليمية والعالمية خطأ كما فعلت في مرات سابقة. هي اعتقدت ان ببرنامجها السياسي الجديد وبظل تبلور شرق اوسط متجدد بشقيه الواضحين : شق المقاومة بقيادة ايران وسوريا وشق " الاعتدال" كما يسمونه بقيادة تركيا والسعودية بدعم اسرائيلي أمريكي واضح سوف تستطيع ان تقدم نفسها بالطرف الفلسطيني البرغماتي والقادر تلى اتخاذ القرارات وتنفيذها للوصول الى حل مع اسرائيل.

تنازلات "حماس" المجانية التي بدأت بوضع كل بيضها في سلة قطر وتركيا وبحضانة سعودية، قطفت "حماس" ثمار العلقم المرة لتنازلاتها هذه بوضعها على لائحة الارهاب وبطرد قسم من قياداتها من قطر.

خرجت "حماس" بخفي حنين وبعد ثلاثين عاما نصل الى النتيجة الواضحة ان الجبل تمخض وولد فأراً.

في النهاية لا بد ان اجزم، خلافة لما قدمته الاكثرية من الزملاء، بان "حماس" لم تقم بنقلة استراتيجية ولا بتحول أيدولوجي نوعي، بل قامت بتحول تكتيكي سرعان ام انقلب عليها وهي الان تقف امام شظايا تهورها السياسي ورقصها على الحبل.

//انتهى//

 

المحلل والباحث السياسي رائف حسين- المانيا