ظلّ الفلسطينيون، منذ انطلاق حركتهم الوطنية المعاصرة في الخارج، في أواسط الستينات، في حيرة من خياراتهم السياسية، نظراً الىى التعقيدات الجمّة التي تكتنف قضيتهم وبحكم المداخلات والتلاعبات والتوظيفات الخارجية فيها، وضمن ذلك بسبب ضعف امكاناتهم في صراعهم مع إسرائيل، وتشتّت مجتمعاتهم وخضوعها لسلطات مختلفة.
في البداية رأى الفلسطينيون في هدف "التحرير"، بمثابة رؤية سياسية لهم، باعتباره رداً على النكبة (1948) الناجمة عن إقامة إسرائيل، وحرمانهم من الوطن والهوية والحقوق، وبخاصة أن تلك الحركة انطلقت قبل احتلال إسرائيل لبقية فلسطين وأراضٍ عربية أخرى (1967). بيد أن حرب حزيران (يونيو)، التي مضى عليها الآن 50 عاماً، قلبت كل المعادلات، إذ أضحى النظام العربي بعدها يتحدث عن استعادة الأراضي التي احتلت في تلك الحرب، أو "إزالة آثار العدوان"، بمعنى أن وجود إسرائيل صار من المسلمات، الأمر الذي انعكس على خيارات الحركة الوطنية الفلسطينية التي تحوّلت بدورها نحو "البرنامج المرحلي" المتضمن إقامة دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد الاعتراف بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، في مؤتمر قمة الرباط (1974)، وعلى ضوء معطيات حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، أي بعد حرب حزيران بسبعة أعوام.
المشكلة أن الخيار المذكور احتاج بدوره إلى مراجعة من القيادة الفلسطينية على ضوء الواقع الصعب وضعف الامكانات، واختلاف المعادلات الدولية والإقليمية، لا سيما بعد هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وانتهاء عالم القطبين، وحرب الخليج الثانية، والتوجه نحو إعادة ترتيب أوضاع المنطقة، من خلال مؤتمر مدريد (1991) ومؤتمرات القمم الاقتصادية "الشرق أوسطية"، الأمر الذي افضى بها إلى اتفاق أوسلو (1993)، الذي يختلف كثيراً عن البرنامج المرحلي الذي تم إقراره قبل 20 عاماً، من ذلك الاتفاق.
وكانت الرحلة من برنامج "التحرير" وصولاً إلى اتفاق أوسلو، مروراً بالبرنامج المرحلي، شهدت أيضاً نقاشات فلسطينية مضنية حول خيارات أخرى، من ضمنها خيار الدولة الواحدة، أي دولة المواطنين الديموقراطية العلمانية، و "ثنائية القومية" أو الكونفيديرالية أو الفيديرالية. ومعلوم أن هكذا أفكار كان تم تبني بعضها في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية (لا سيما "فتح") في أواخر الستينات، ولكن إعادة طرحها، بطرق أكثر نضجاً، تمت من قبل مجموعة من المثقفين الفلسطينيين المستقلين (في الداخل والخارج)، يمكن أن نذكر منهم نديم روحانا وعزمي بشارة وسعيد زيداني وأسعد غانم وكمال الخالدي وإدوارد سعيد وخالد الحسن (كان استثناء كونه كان عضواً في اللجنة المركزية لحركة "فتح")، وآخرين غيرهم.
ويمكن القول إن مثقفي الداخل تحديداً هم الذين لعبوا الدور الأبرز في تقديم مثل تلك الطروحات، ما شكل إغناء للفكر السياسي الفلسطيني، بحكم تحررهم من أسر المفاهيم السياسية لفصائل المقاومة المسلحة، وبواقع تأثرهم بالتجربة السياسية لفلسطينيي 1948، وبالنظر إلى أنهم كانوا يعبرون عن حالة مجتمعية معينة، وليس عن وجود فصائلي، على النحو الذي كانت الفصائل المسلحة في مجتمعات الفلسطينيين (في أواخر الستينات والسبعينات) في مخيمات اللاجئين في الأردن ولبنان وسورية، وأخيراً لا شكّ في أن تحوّل الحركة الفلسطينية إلى سلطة وفقاً لاتفاق أوسلو (1993)، الناقص والمجحف، ومن ثم إخفاق هذا الخيار بسبب تعنّت إسرائيل عزّز من ضرورة طرح هكذا خيارات أو بدائل.
في هذا الإطار لفتت انتباهي مادة سعيد زيداني ("فصل سياسي نعم فصل جغرافي ديموغرافي لا"، "الحياة"، 8/6)، لما فيها من تجديد وإغناء للنقاش في الخيارات الفلسطينية، وهو كان من أوائل من قدموا طروحات تتعلق بالحكم الذاتي لفلسطينيي 1948، والدولة الواحدة. في المادة المذكورة حاول زيداني الجمع بين خياري الدولة الواحدة والدولتين، على أساس ثلاثة شروط، أولها، أن الفصل بين إسرائيل وفلسطين لا ينبغي أن يكون جغرافياً أو ديموغرافياً، وإنما سياسياً، لأن الفصل الجغرافي يقيد حق الفلسطينيين في فلسطين كلها، وحتى في الأراضي الفلسطينية المحتلة، علماً أن إسرائيل اليوم تصارع الفلسطينيين على أرضهم في الضفة، التي تشتغل على قضمها بالمستوطنات والجدار الفاصل والأحزمة الأمنية، في حين يفتقد الفلسطينيون السيطرة على أراضيهم أو حرية الحركة منها وإليها. وهذا يأخذنا إلى الشرط الثاني الذي طرحه، إذ إن إسرائيل في هكذا فصل تحرم الفلسطينيين من حقوقهم. هذا أولاً. وثانياً، فهي تؤكد ذاتها كدولة يهودية، وثالثاً، تطلق يدها في اقتطاع أراضيهم وإضعاف كيانهم. لذا في هذا السياق يأتي طرحه المتعلق بالتشارك بين الدولتين "تلك الأشياء" التي يتعسّر أو لا يجدر تقسيمها"، لا سيما أن إسرائيل في واقع الأمر هي التي تهيمن على الموارد وعلى الأرض والمياه في فلسطين التاريخية. يأتي شرطه الثالث عن ضرورة الحفاظ على وحدة البلاد، واحترام ارتباط الناس (عرباً كانوا أم يهوداً) بكلها أو بأي جزء منها، سواء كان نفسياً/ عاطفياً أو دينياً أو تاريخياً. وهذه الفكرة، أو الشروط، عند زيداني تتعاطى، في آن، مع حالة اليهود في دولتهم إسرائيل، ومع مطلب الفلسطينيين في إقامة دولتهم الخاصة المستقلة في حدود الرابع من حزيران 1967، ومع عودة اللاجئين (أو من أراد منهم) إليها أو إلى "ديارهم" التي تمّ اقتلاعهم منها عام 1948، مع التمييز بين الحق في المواطنة في الدولة الفلسطينية، والحق في الإقامة الدائمة في إسرائيل، ما يساعد "في تسويغ وتسويق ممارسة حق العودة، بخاصة لدى الطرف الإسرائيلي". أما بالنسبة الى المستوطنين فيقترح زيداني بقاءهم (من دون امتيازات) كمواطنين أو كمقيمين حيث هم، لكن يمارسون حق المواطنة في دولة إسرائيل، مع اعترافه بأن هذه المسألة بمثابة "جوزة" غير قابلة للكسر، لا سيما أن ضم المستوطنات أو كتلها إلى إسرائيل قد يفقد الدولة الفلسطينية كثيراً من جدواها ومن قابليتها للحياة، بينما يظل إخلاء المستوطنين وتفكيك المستوطنات أو الكتل الكبيرة منها متعسراً على أي حكومة إسرائيلية. وبخصوص القدس يطرح زيداني حلاً يجمع بين التقسيم والمشاركة، حيث تظل القدس مدينة مفتوحة، وواحدة على المستوى البلدي، ويكون غرب المدينة عاصمة لإسرائيل... بينما شرقها عاصمة لفلسطين وتحت سيادتها، وطبعاً هي الآن كلها تحت السيادة الإسرائيلية. وأخيراً، فعنده تبقى البلاد كلها وحدة واحدة وفضاء واحداً لأغراض العمل والتنقل والإقامة، ويعتبر أن كل من يحاول التقليل من أهمية ذلك هو مخطئ.
على أية حال ثمة أهمية كبيرة لإثارة النقاش، أو بالأصح لفتح النقاش، بخصوص الخيارات الوطنية الفلسطينية، بعد تجربة عمرها نصف قرن، خصوصاً أن الخيارات الفلسطينية السائدة، من فكرة "التحرير" إلى فكرة "الكفاح المسلح" بنيت على الأوهام، من دون أي استناد إلى الواقع، ولا حتى إلى ظروف الفلسطينيين وأحوالهم الصعبة، وواقع خضوعهم لسلطات متعددة، فضلاً عن أنها لم تأخذ في اعتبارها الواقع العربي المناهض، أو الذي لا يتحمل أي عمل شعبي، إلا إذا كان في إطار توظيفات معينة، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بتحرير فلسطين والكفاح المسلح والصراع ضد إسرائيل؟ أما بخصوص فكرة التسوية في "دولة مستقلة" فكما هو معروف فقد بنيت على الرغبات، أكثر مما بنيت على المعطيات الواقعية أو الإمكانات الذاتية، وقد شهدنا أن إسرائيل هي التي قوضت اتفاق أوسلو، وأطاحت باستحقاقاته، على رغم أنه اتفاق مجحف وناقص بالنسبة الى الفلسطينيين وحقوقهم، ناهيك بأن إسرائيل رفضت "المبادرة العربية للسلام" (بيروت 2002).
المسألة أننا هنا نناقش تلك الخيارات بعد أن تبين عقمها، ولا واقعيتها، في معمعان التجربة، أي ليس من قبيل التحليل والتنظير فقط. لذا وطالما أن الأمر هو على هذا النحو فما الجدوى من طرح خيارات مكلفة، أو لا جدوى منها، أو تفيد بإزاحة الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني، أو تؤدي إلى تقويض وحدته كشعب، على نحو ما فعل خيار أوسلو، الذي اختصر الفلسطينيين بفلسطينيي الضفة وغزة، واختزل قضيتهم إلى مجرد دولة في الأراضي المحتلة (1967)، وفرّط بوحدة الفلسطينيين كشعب في كل أماكن وجوده، ومن ضمنهم فلسطينيو 1948؟
القصد من ذلك أن الفلسطينيين في حاجة إلى طروحات لتجديد مشروعهم الوطني، من دون أن يتعارض ذلك مع حفاظهم على أي انجاز كياني تم تحقيقه، ومع فهم أن فكرة إقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع ليست حلاً نهائياً، لا للمسألة الفلسطينية ولا للمسألة الإسرائيلية، لا سيما من دون حل مشكلة اللاجئين، تماماً مثلما أن حل الدولة الواحدة، بكل أشكاله أو تدرجاته، لا يعني القطع مع الخيار المتعلق بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، إن سمحت إسرائيل بذلك. أيضاً فإن الفلسطينيين معنيون بتعزيز وضعهم كشعب واستعادة المطابقة بين الأرض والشعب والقضية، بالتفكير من خارج الصندوق، كما من خارج الفصائل التي لم تعد تقدم أي جديد على صعيد إغناء الفكر السياسي الفلسطيني، وبخاصة مع غياب دور الهيئات التشريعية والمؤسسات القيادية، علماً أن لا شيء جدياً مطروح عليهم، ما يعني أن الأولوية يفترض أن تنصبّ على إعادة بناء كياناتهم وتجديد خطاباتهم السياسية.
ماجد كيالي
* كاتب فلسطيني