سنبقى نتحدث ونكتب عن معركة المسجد الأقصى وبواباته التي أغلقتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي لأكثر من أسبوعين، منعت خلالها المصلين من الدخول إلى باحات المسجد الأقصى المبارك إلا عبر بواباتٍ إلكترونية جديدة، نصبتها استفزازاً وخططت لها خبثاً، وجهزتها مسبقاً وأعدتها قصداً، وبررتها أمناً وأرادتها أبداً، قبل أن يجبرهم الفلسطينيون على تفكيكها وإعادتها في شاحناتٍ ضخمةٍ من حيث أتوا بها، ليصنعوا بذلك عليهم نصراً به يتغنون، وفتحاً به يفتخرون، وتجربةً منها يتعلمون وإلى غيرها يتطلعون، إذ فرضوا عليهم تراجعاً مراً، وانكفاءاً أليماً، ودرساً قاسياً، وندماً يبدو شديداً.
لهذا سنواصل الحديث عن هذه المعركة المشرفة لا لنجتر الكلام نفسه، ونعيد الوقائع ذاتها، ونسرد الأحداث نفسها، بل لنبين بعض جوانبها المشرفة وصفحاتها المضيئة، ولنسط الضوء على بعض زواياها التي غفل عنها المتابعون، وتجاوزها عن قصدٍ المنافسون، وغض الطرف عنها الحاسدون والخائفون، وهي للحق جوانب تستحق التوقف عندها والتأمل فيها والتعلم منها، ولعله يحق لنا أن ندرس هذه التجربة التي فيها نجحنا وتميزنا، حتى نتمكن من معرفة أسباب النصر وعوامل القوة، ونستطيع أن نشكر من بذل جهداً ومن قدم عملاً، ومن كان له سهمٌ فيها أياً كانت مشاركته.
غابت القوى والأحزاب والفصائل ومعهم السلطة الفلسطينية عن واجهة الأحداث، ولم يتصدروا الشاشات الفضائية وصفحات الجرائد والمواقع الالكترونية، ولم يكن لهم وجودٌ إلا القليل على الأرض وأمام البوابات، وبين المصلين ومعهم في الشوارع والطرقات، إذ وجدوا أن في الميدان من هو أكفأ منهم وأصدق، وأقدر على القيادة منهم وأجرأ، وأنهم لم يكونوا بحاجةٍ إلى نصحٍ أو إرشادٍ، ولا إلى مرجعيةٍ وتوجيه.
فقد أثبت رجال الوقف الإسلامي وعلماء وأئمة وخطباء المسجد الأقصى، والموجهون والإعلاميون وقادة الحرس وجهاز أمن المسجد، أنهم قيادة رشيدة، وهيئة حكيمة، ومرجعية صادقة، ومؤسسة وطنية، ومديرية منظمة، وأنهم يحسنون الإدارة والتدبير، ويتقنون علوم التوجيه والتخطيط، ويتخذون القرارات الصائبة، ويعتمدون الوسائل السليمة والسبل المناسبة، وعندهم رؤية ثاقبة ومعرفة جيدة ومعلومات شاملة، فلا يقوى العدو على خداعهم، ولا يستطيع تجاوزهم أو الالتفاف عليهم، كما لا يقوى على شرائهم والتأثير عليهم، أو تخويفهم والضغط عليهم، حتى بدوا أمامه كالجبل الأشم الراسخ، فلا يستطيعون صعوده ولا إزاحته من أرضه، وأيقن العدو أنه في مواجهةٍ جديدةٍ ومختلفة، فهذه القيادة موحدة ومتماسكة، ومتوافقة ومتعاونة، وعالمة وواعية، وهي في الميدان وعلى الجبهة، تسبق الجميع وتقاتل كالشبان، وتتلقى الضربات وتضحي قبل العامة، وتتحدى بعنادٍ وشراسةٍ، وتطرح مواقفها بلا خوف، وتعلن عن خطتها بلا تردد، وتؤكد انتصارها، وتهدد من مواقعها أنها ثابتة وباقية وصامدة وموحدة، بما ينفي عنها الخور والضعف، والجبن والخوف.
رأى الفلسطينيون، المقدسيون والمرابطون القادمون من الضفة الغربية ومن عمق الوطن وأنحائه، أن هذه القيادة تستحق الاحترام، ويليق بها أن تكون هي المرجعية ومن يحمل الراية ويمثل الأمة، فالتف حولهم الجمهور وأصغى إليهم المقدسيون والمرابطون، وقبلوا بهم ممثلين وموجهين، وسلموا لهم دفة القيادة وإدارة المعركة، فما عارضهم أحد، ولا اعترض على قراراتهم آخر.
حرص الفلسطينيون أن يظهروا أمام العدو صفاً واحداً تحت قيادةٍ ومرجعيةٍ واحدة، يستجيبون لها وينفذون أوامرها، ولا يتجاوزون قراراتها، وقد بدا لهم من المعركة أنهم مخلصون صادقون مضحون، مقدامون جريئون مقتحمون، ثابتون راسخون متمسكون، ماضون حادُّون جادون، وقد وقفوا بأنفسهم وجهاً لوجهٍ مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، يتحدون جنوده ويصدون هجومه، ويفاوضون ضباطه ويرفضون قرارته، وقد أحسنوا جمع المواطنين وتنظيمهم، وأجادوا تعبئتهم وتحريضهم، وتفوقوا في خطابهم وتصريحاتهم، فأحبهم شعبهم ووثق فيهم، وأمل في مستقبله معهم، واطمأن إلى الأقصى والمقدسات في كنفهم وبين أيديهم.
أثبتت المرجعيات الإسلامية في القدس أنهم يحسنون التفاوض، ويتقنون الحوار مع العدو ويعرفون اللغة التي يفهمها، ويدركون ماذا يريدون منه ومتى يتقدمون نحوه وكيف يتقهقرون أمامه، وأثبتوا أنهم لا يفرطون في حقوق الوطن والأمة، ولا يغامرون بشعبهم وأهلهم، بل يحرصون عليهم ويخافون على حياتهم، ولأنهم كذلك صدقاً وحرصاً وإخلاصاً، وأكثر عناداً في مفاوضاتهم، وأكثر وعياً بقضيتهم، فقد استهدفهم العدو أكثر من غيرهم، وحقد عليهم أكثر من سواهم، ورأى أنهم الذين كانوا السبب في هزيمته وتراجعه، وأنهم كسروا هيبته وأضعفوا شخصيته، وأنهم حققوا كل مطالبهم، ولم يتنازلوا عن ثوابتهم، ونجحوا في أن يكونوا موضع إعجابٍ من شعبهم وتقديرٍ من أمتهم، حتى غدوا بينهم مضرب مثلٍ ومحلَ إجماعٍ وعنوان التقاء واتفاق.
أدرك الشعب الفلسطيني الذي التف حول القيادة الدينية وسلم الأمانة لرجالها، أنه أصاب ولم يخطئ، وأنه وضع الأمانة بأيدي من يستحقونها، وسلم القيادة لرجالٍ هم أهلٌ لها وأمناء عليها، وشعر الفلسطينيون أن الله قد مَنَّ عليهم وأكرمهم، إذ اصطفى لهم من بينهم قيادة مخلصة، لا مآرب لها ولا مصالح عندها، ولا تتطلع لمناصب دنيوية ولا لمنافع شخصية، ولا تهمها الصورة ولا تعنيها المقدمة، وإنما عينها على القدس وقلبها على المسجد الأقصى، تقاتل من أجله، وتضحي في سبيله، ويشرفها أن تكون خادمةً له ومرابطةً فيه.
الإسرائيليون يلعنون أنفسهم في اليوم ألف مرةٍ ومرةٍ، يبدون ندمهم ويعضون أصابعهم، ويجلدون قيادتهم ويتهكمون على شرطتهم، ويسبون رئيس حكومتهم الأهوج الذي فجر هذه المعركة وكان سبباً فيها، إذ جعلهم في مواجهة مرجعيةٍ جديدةٍ، قويةٍ عنيدةٍ، وحَوَّلَ المعركة معهم إلى حربٍ دينيةٍ، لا يقوى على خوضها، ويخشى من استمرارها، ويعرف أنها ستكون قاسيةً عليه وصعبةً على جنوده، فالأقصى عند الفلسطينيين ولدى المسلمين آيةٌ في القرآن ونصٌ في الكتاب، يتلونها عند كل صلاةٍ ويدعون بها في كل سجود، ويسألون ربهم صلاةً فيه ونصراً، وإلا شهادةً عنده وخُلداً وبين الناس ذكرى ومجداً.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 8/8/2017