في السادس من آب من هذا العام ، وفي العاصمة الاردنية عمان، وفي قاعة زهر اللوز، لصاحبها عزمي عودة وهو لاجيء فلسطيني من قرية "السفلى"، التقى المئات من ابناء مخيم الدهيشة من مختلف الاجيال والاعمار، وربما هو الاول الذي يجتمع فيه المهجرون والمطرودون من قراهم عام النكبة 1948، والنازحون عام 1967،وما بين النكبة والنكسة اجيال جديدة تتلاقح وتنمو وتتفتح وتخطو خارج الازقة الى فضاء الكون.
اللقاء الموسع الذي بادرت اليه مؤسسة ابداع بعد ان احيا اطفالها امسيات فنية رائعة وجميلة في مهرجان الفحيص الدولي، حيث شاهد الألوف من الناس بنات واولاد يطيرون بالاغاني والرقص على خشبة المسرح ، أصوات شهداء واسرى وجرحى ومبعدون، تنهمر مع الموسيقى والايقاع والاضواء الساطعة، ومن خلالهم رأى الناس القدس في معاريج السماء، وكيف تتحرك الحدود والحواجز وتعود الاسماء الى البيت وذاكرة الحقل والبرهان.
في اللقاء الدهيشي المشحون بالتاريخ والدمع والقسوة والغضب، كان هناك دم يسيل لا يتوقف، تكلمت الاشياء الصامتة ، التحم الماضي بالحاضر، غيبا تقوده النار، ونار وقودها الغيب، الضوء لا يكف عن النشيج باكيا راثيا متأملا، سلالات تلد في المنفى تقف على النهر شرقا، نبوءات تصرخ في الماضي غربا، أقدام أولاد فرقة ابداع لازالت تضرب بشدة خشبة المسرح امام دهشة الليل.
لقد حضرت القرى والمدن والمخيمات والاحياء والحارات والعائلات والذكريات، عناق وودموع ومشاعر تفيض، روايات متشعبة وأسئلة تفتح الجروح، هنا اسرى قدامى، وهناك اسرى مصابين بالسجون، واحياء هنا، شهداء هناك، يتوحد الحيّ مع الميت في اللقاء الدهيشي، والزمن يتوقف، تنفجر القاعة ، الزمن يصير صرخة.
في هذا اللقاء الدهيشي رأيت امرأة دهيشية تكاد ان تلد ، خرج الطفل وفي عينيه نور لم يعرف من قبل ، في يديه ماء ، يضحك، يقف بين نكافتين وحجرين في فضاء المخيم، دمه صار معجما يسيل بكل اللغات، يتجه تارة الى حيفا ، وتارة الى الرملة، يتوقف في القدس، اسمه براء حمامدة.
رأيت سنابلا خضراء تتفتح، وفي كل سنبلة الف كتاب في اليقين، الجميع صاروا محاريثا تصل سكتها الى قرى زكريا وعجور والمالحة وبيت نتيف، وبيت عطاب ، وعلار، وديربان ، وراس ابو عمار والسفلى والولجة وخلدة وجراش ورفات وتل الصافي وبيت جبرين والقبو والمالحة، وغيرها من القرى التي نهضت من مذابحها ونشرت عظامها وصخورها وأشجارها واضحة واضحة في سماء الحقيقة.
حق العودة على الطريقة الدهيشية، اينما وجهت نظرك تراهم جميعا قد جاءوا من ثنايا التاريخ والطريق، كل يحمل مفتاحه الخاص : صلاح عبد ربه تسمعه بوضوح وهو يقود مؤتمرات اللاجئين في مخيمات الفارعة والدهيشة والفوار، وتسمعه اكثر في معتقل النقب الصحراوي يهز الاسلاك بنشيده :
يا نقب
كوني ارادة
كوني مجدا وريادة
ورشفنا الحر كأسا
وعشقنا الرمل همسا
وحملنا الليل عرسا
دولة ذات سيادة
محمد الاطرش (ابو فريد) يجلس تحت زيتونة البدوي في قرية الولجة ، يغتسل بالزيت والتراب وحجر الصوان الاحمر وببخور الاولياء الصالحين، يروي للقادمين سيرة الوقت قبل ان يهدم جيش الاحتلال المنازل ويصادر الارض والينابيع ويحمله الناس مقهورا مقتولا على النعش.
الاسير الشهيد محمد ابو لبن يقف وسط القاعة، يعلن الاضراب المفتوح عن الطعام من اجل الحرية والكرامة، يصافح الحاضرين بالملح والماء والجسد المذاب ويغني:
هذي خطانا أقبلت
دعها تمر على المُقَل
دعني اغني يا رفيقي
فلم الخجل
دعني اردد لحن نصرِ
لم يزل
حق العودة على الطريقة الدهيشية، كل شخص خرج منه شخصا آخر، الحقل صار حقولا، ما هؤلاء الناس الذين يلبسون المستقبل؟ خرجوا من السجون او من القبور ، خرجوا حفاة، يسيرون خلف نشيد سميح فرج في شوارع المخيم وهو يردد:
أنت المخيم ..
والمخيم ..
والمخيم ..
افتح عيونك يا ولد .. !
حيفا حواري
يا غراب القهر يا هذا المحقق
حيفا قراري او كتابي المستمر الى الأبد
افتح عيونك يا ولد..
رأيت الاسير المحرر صالح ابو لبن يقلب صفحات ذاكرته ويكتب بتثاقل شديد، جروح على الجسد ، غاز مسيل للدموع، قمع وحشي في السجون، شهداء سقطوا بين يديه بين الجدران، خرجوا دون وداع ومشيعين، أسرى كبروا وشاخوا، خبأوا الشمس في قلوبهم سنوات وسنوات، لم ينطفئوا، يحتار صالح على أية جهة من كتفيه يلقي بجناحه المرهق، تفوح منه رائحة تاريخ لا يخبز غير الرعود العاصفات.
في هذا اللقاء المميز في عمان، الاجساد تكمل اجسادها، كلماتها، شظاياها، مفرداتها، حصاها المتناثر في الطرق الوعرة، روح سابعة، قرى تتنفس ، الناس لا ترى الا بأشلائها ، الملح يقاتل التراب، الجوع يقاتل العبودية، تتكلم رياح الفقراء، يمزجون حياتهم بغبار الموتى ويعيشون ، يحيكون ثوبا جديدا لنهار آخر، يرددون اسماء المواليد على بوابات المقابر ويحتشدون ، رماد اللجوء يشعل لهب الكلام.
في اللقاء الدهيشي، على العالم ان يصدق ما اكتشفه الباحث الاسرائيلي "شلومو ساند" بان الشعب اليهودي شعب جرى اختراعه وتوليفه، فقد جمعت الحركة الصهيونية شظايا ذاكرة يهودية واستعانت بخيالها المجنح وبأساطيرها وسلاحها كي تختلق بواسطتها انساب متسلسلة لما يسمى الشعب اليهودي.
في اللقاء الدهيشي يروي الصحفي الكاتب اسامة العيسة سيرة الحنون الجبلي من خلال تلك الجدّة التي اشترت كفنها وعطر الموتى وأخفت ذلك في الصندوق الخشبي الذي يشبه الصندوق الذي تركته عام الرحيل، ولهذا لا زالت ترتفع في المخيم اسماء القرى على اللافتات: دكان الرفاتي، ملحمة الجراشي ، فلافل الولجي، محلات العرتوفي، مشحمة الديرباني، فالمخيم لا يغفل ولا ينام ، لا نوم للوقت، ولا وقت للنوم، تختلط الذكريات باللحم والزيت والصحو ، يتعلمون كيف يستقبلون الغد.
في اللقاء الدهيشي في عمان، شاهد الجميع حرب النكبة وسياسة التطهير العرقي والابادة للبشر والقرى وجرائم طرد الفلسطينيين من وطنهم، وخلال الاحاديث المتدافعة تسافر في تلك الرحلة الضرورية من الماضي الى الحاضر، ترى جدك مقتولا هناك، وترى ابوك وأخوك كيف اعدموهم في معسكرات الاعتقال، عمليات نهب وسرقات واغتصاب وطرد جماعي، اكوام جثث، اكثر من مائة مجزرة، لتسمع شهقات وحشرجات وحسرات، وكلما حفر الاسرائيليون في الارض اكثر كلما برزت جماجمنا بعيون واضحة.
روى الحاج المسن عزت ملحم قصة تلك المرأة الفلسطينية التي حملت طفلا بين يديها، اصابتها رصاصة في صدرها، سقطت تتضرج بدمها وهي تفرفر على الارض، وحاولت وهي تفرفر للمرة الاخيرة الوقوف ومواصلة الهرب، ولكنها انهارت وسقطت على الارض، شعرها تناثر على التراب وبرز ثديها يطل من فتحة فستانها، بكى الطفل دون توقف، ولما رأى امه لا تأخذه الى حضنها مد يده بشكل تلقائي الى ثديها وحشر حلمتها في فمه وصار يرضع نقاط الحليب الدافيءالاخير من ثديها.
في اللقاء الدهيشي تسمع صوت الحرب المستمرة، صفحات قتالية كشف عنها المؤرخون، هتافات الثأر والانتقام، دم اسرائيل ينتقم، لازال هتلر يعيش في عقولهم، صوت جندي اسرائيلي يقول بعد احتلال قرية بيت نتيف، لن نبقى فيها حجر واحد،انهم يرثون ويورثون ، يبيدون شعبا ويسمون ذلك استيطانا ، صوت المزمور رقم 18 : اتبع أعدائي فأدركهم ولا ارجع حتى افنيهم، اسحقهم، يسحقون تحت رجلي ، اسحقهم كالغبار.
الدهيشيون يروون ما سمعوه على لسان ذلك الجندي وهو يقول: هناك جيل يجب ان يقاتل حتى يستمتع الجيل الذي يليه بالزهور، يجب قتل الناس، حتى يصبح بالامكان تنمية الزهور، ذلك الحاكم العسكري الاسرائيلي كان ينظر الى الناس وكأنهم مكعبات صغيرة في لعبة الدمينو او الشطرنج يزعق: لا تأخذوا اسرى، لا تعالجو جرحى، انهم حيوانات مفترسة.
في اللقاء الدهيشي وفي وسط الحب والدموع قرأنا شهادات القتلى الذي جعلوهم كومة واحدة وحرقوهم عام النكبة، وكانت العصابات الصهيونية تغني أغاني شمشون، البندقية، القنبلة، اغنية الموت، الجنود الذين يعرفون كيف تقطع الرؤوس عن المناكب، وان الحديث عن السلام ليس له رائحة امام رائحة الموت، فالسلام بالنسبة للاسرائيليين ليس سوى هدنة تحضيرية استعدادا لحرب أخرى.
في اللقاء الدهيشي تسمع عويل القرى المدمرة الخاوية من سكانها ، المخفية بالاستيطان واشجار الصنوبر، وبعد 70 عام يظهر الدهيشيون واجهة ثقافية وسياسة ونضالية على مستوى فلسطين، خلعوا اعمدة الخيام والسياج وحفظوا نشيد الجياع لشاعرهم خليل زقطان:
أخي لا الواقع المضني ولا الآلام تثنينا
اذا ثارت جحافلنا يمم شطر وادينا
لئن كنا شرارات فقد صرنا براكينا
في اللقاء الدهيشي قرأنا وصية المناضل الأممي الفرنسي "فيرنو" التي كشف فيها سرّ قراره بدفن رماده تحت شجرة زيتون في المخيم، توأم روح مع روح، مقتنعا انه من المخيم يقوم الرماد على قدميه، ومنه أول البعث والنشور الى الحياة والحرية، فقد ضاقت الارض بالمعذبين والمظلومين ،وامتلأ قاع البحر المتوسط باللاجئين الغرقى الهاربين من القصف الدموي في قطاع غزة يمتطون موجاتهم الصاخبات العائدت.
في اللقاء الدهيشي في الأردن سمعنا أجراس الكنائس تقرع خلال زيارة قداسة البابا فرنسيس للمخيم والتقائه مع الاطفال قائلا: الحاضر لا يمنع المستقبل، يا رب اعط خبزك لذراع الفجر، وارفع النبوءات التي تحملها يمامات المخيم عاليا، فهنا لا تكاد تجد الشمس في ثديها حليبا لترضع طفلتها الجائعة، وهنا الارض مصلوبة تموت كمثل ملائكة بلا أجنحة ، وها أنا يا رب أكاد ارتجف من البرد، ولا أجد ما اغطي به احلام الصغار إلا عباءة الصلاة، وضوء شموع أشعلها الصاعدون دفئا ورجاء في الحياة.
حق العودة على الطريقة الدهيشية، الجو ساخن جدا، الحاضرون يسـألون ويتساءلون عن فلان وفلان، اين اسماعيل الشوعاني وعبد الله تايه ومحمود الخطيب؟ اين اللاعب الاسمر صبحي مناصرة وعلي الجعفري والشيخ محمد ابو لبن ؟ اين مريم ابو غلوس وحربي ابو صدود وعائشة عمارنة؟ اين مصطفى فرارجة ومحمود المغربي ومحمد وعاطف ابو عكر وامجد فرج ومعتز زواهرة ومالك شاهين وأحمد محيسن؟ تفيض الاسماء حارة حارة، شارعا شارعا، بيتا بيتا؟ سجنا سجنا، قبرا قبرا ... وتكبر الرواية.
حق العودة على الطريقة الدهيشية، ثمانون جريحا وأكثر يمدون اقدامهم المصابة على يد جنود الاحتلال، عكاكيز تحفر النبع من تحت الاقدام، يختلط الماء بالدم، ما أعمق الوحدة بين الدم واللاجئين ، الاجساد هنا سماء، يتعب الجندي الاسرائيلي، يصدأ سيف البتر والموت، الحارة الفوقا تنادي على الحارة التحتا... ابواب البيوت مفتوحة في سماء المخيم حجارة مضيئة، يتعب الليل ، صوت اطفال ابداع على مسرح الفحيص يزداد اهتياجا.
بقلم/ عيسى قراقع