لقد اصبح مرض السرطان يحاصرني حتى الجنون، وصرت اتعاطى مع الحياة بجرعات منقوعة بشهقات الموت حتى اصبحت الروح منهكة تسبح في فضاء المجهول والجسد هنا في السجن فوق صفيح الليل البارد وجمر المرض الحارق، وأصبحت وجها لوجه مع الموت اصارع مرض السرطان وحيدا اكثر واكثر كلما تأخر العلاج حتى يأتي على الخلية المليون في جسدي.
هذه كلمات الاسير المريض باورام سرطانية في الرئة موسى صوفان، سكان طولكرم والتي اطلقها صرخة موجعة من سجن عسقلان، وقد شارك في الاضراب الاخير عن الطعام، فانفجرت عنده الرئة في اليوم الثامن عشر للاضراب.
الاسير موسى صوفان المحكوم بالمؤبد، والمسافر سنة وراء سنة، وليلا وراء ليل حشرا ومرضا ورجاء يمثل مئات الاسرى المرضى الذين يصارعون الموت، يتعكزون على بقايا ارواحهم المحطمة، يحاولون ان يؤجلوا موتهم قليلا لعل هناك من يقرع الباب، او يصرخ بصوت اعلى كي تتحرك هذه اليابسة بكل ما عليها من مؤسسات دولية وحقوقية او يهيج البحر بكل ما فيه من غضب ورياح.
هي آلام تتفاقم وتتسع في اكثر من ثلاثة وعشرين سجنا ومعسكرات وزنزانة ، وخلف تلك الجدران العالية والاسلاك الشائكة يحتجز اسرى الحرية ، وتمتد اكثر لتنغرز في جسد وطن يحاصر ويعذب ويضيق ، ويصير كل شيء من حديد ورصاص وحفر وحواجز واختناق بين شارع ومستوطنة، يسقط الناس كالغبار.
في مهرجان الصمت هذا ، يسقط الشهداء في السجون والشوارع وعلى اسطح المنازل، يسقطون قهرا وتعذيبا ومرضا وانتظارا ولا احد يصل، وان وصلوا يحتجزوا في ثلاجات الموتى الاسرائيلية او يبعثروا في قبور الارقام السرية، كل شيء مرهون للموت في الدنيا والآخرة.
لم يزرهم أحد ، فالاحتلال الذي وصل الى أعلى درجات الفاشية والتطرف لا يسمح للجان تحقيق دولية من التحقيق في ممارسات الاحتلال بحق الاسرى بالسجون، لم يتطرق مجلس الامن ولا مرة الى الجرائم المنظمة البطيئة التي تجري خلف القضبان ، لم تناقش الجمعية العامة للأمم المتحدة انتهاكات سلطات الاحتلال لقواعد القانون الدولي وللاعراف الطبية والانسانية الملزمة لها بتقديم العلاجات للاسرى المرضى.
في السجون حرب لم تتوقف منذ سبعين عاما، والكاميرا لم تكشف عن الدماء النازفة والصرخات التي تهز الكون من الاسرى في مستشفى الرملة الاسرائيلي، خالد الشاويش ومنصور موقدة وبسام السايح ومعتصم رداد وناهض الاقرع ويسري المصري ومحمد براش واحمد ضراغمة وجلال شراونة وسامي ابو دياك ويوسف نواجعة وغيرهم.
لم يستطع احد ان يساعد المعاقين والمشلولين والمصابين بالرصاص، المبتورة أقدامهم ، المشطورة اجسامهم، الناقصون اطرافا، القابعون في غرف العناية المكثفة تحت اجهزة التنفس والتخدير، او المرضى نفسيا وعصبيا التائهين بكلامهم وأحلامهم المحتجزين في الزنازين، لا دواء ولا رعاية اجتماعية، مخدرين بالمهدئات ، نائمين كالأموات.
غدا تقام الجنازات في مهرجان الصمت، ويتحرك عدّاد الشهداء كما تتحرك الامراض يوما يوما وتتصاعد في اجسام الاسرى، وخلال تشريحهم سنشاهد المذبحة، لا فحوصات دورية، لا تشخيص للامراض، لحم متآكل وخلايا ميتة، شرايين مغلقة بالغاز المسيل للدموع، لا هواء في القصبة، جروح هنا وآثار ضرب هناك ، كيف عاشوا وكيف صبروا وكيف تحملوا؟
غدا تقام الجنازات في مهرجان الصمت، لم اسمع بمحاكمة دولية على انتهاك اطباء سجون الاحتلال للقوانين الانسانية ولقسم ابو قراط الطبي ولكل المعاهدات التي تلزمهم القيام بواجبهم في علاج الاسرى المرضى، عندها لا يكفي كيس اسود او تشييع صاخب، لا يكفي أن تقول ان دولة اسرائيل دولة بلا اخلاق ، دولة فوق القانون، فالكيس الاسود اصبح مصير الجميع، راية سوداء تلوح في افق الشرق الاوسط.
هذه سجون ام مسارح للهول والموت؟ ما افجع ان نتحول الى طرائد لهذا المحتل تتزاحم حول بعضها ترتل اوجاعها، كل شيء يقول وداعا ، يغلقون باب القبر كباب السجن، يغلقون باب البيت وباب المدينة، يغلقون احلامنا وامنياتنا ويحشوننا بالاورام ، يفجرون اجسامنا وركبنا وجماجمنا ويستمتعون.
الفساد المستشري لدى زعماء دولة الاحتلال، ينقذف جرائم في وجهنا، الفاشية المتنامية في اسرائيل تنقذف رعبا وتشريعات تعسفية في وجهنا، امراضهم النفسية والعسكرية والفكرية تفضحها هذه الحرب الدائرة داخل السجون.
غدا تقام الجنازات في مهرجان الصمت، ولا اعتقد ان احدا سيناقش مشروع وقف مخصصات الاسرى والشهداء، فالكل غائب، ولا اعتقد ان احد سيناقش ان كان هؤلاء الاسرى هم اسرى حرية ام ارهابيين بالفعل، فالكل غائب، ولا اعتقد ان احدا سيناقش القانون الاسرائيلي باعدام الاسرى، الكل غائب، ولا اعتقد ان احدا سيناقش دبلوماسيا وقانونيا الدعم الرسمي الاسرائيلي لمنظمات الارهاب اليهودية ،الكل غائب، الكل مصاب بهذا الورم الخبيث، الكل يتوجع ، الكل يبحث عن شفاء وخلاص اخير .
هنا كان الشهيد ميسرة ابو حمدية، يحلم، ينتظر ان يشفى من ورمه المتوحش ليعود الى مدينته الخليل، حملته الملائكة سنين طويلة من سجن الى آخر ، كان يراقب حركة السماء فوقه، أكيد لو ظل ميسرة حيا لرضي ان يرحل ابعد من ظله لئلا يرى وطنا نخرته الاورام ويعدم كل يوم.
هنا بقايا دم لأسرى استخدمت معهم التغذية القسرية لكسر اضرابهم المفتوح عن الطعام، بين جدران سجن نفحة وعلى الرمل الساخن جرت مذبحة ذات يوم، فكيف نوضح للمجتمع الدولي ان آلاف الاسرى ينسجون اكفانهم من خيوط اشعة الشمس الغائبة، شروقها جرح وليس غروبها الا قبرا.
ماذا يقول الفقهاء في انسان تحول الى كرة لحمية، جسده محشو بالاسلاك الطبية؟ دمّر الرصاص كافة أعضائه وأنسجته الداخلية ، يرتجف طوال الوقت، لا أحشاء ولا أمعاء ولا كبد، مشلول يمسك بعصا موسى ليشق نبوءة القلب والبحر، هو منصور موقدة يعيش في فرن الاحتلال، يكتب: سلفيت سامحيني، عفوك ، هاتي اشجارك، اعطني وجهك، ربما ارى عيون اولادي وعالم حقوق الانسان.
الجنازات ستقتحم علينا الاجتماعات واللقاءات والتهريج العبثي، تضع حدا بين ما كنا وما سيكون، ربما هي الكفيلة بحل التناقض واللغز الكوني بين الحياة والموت، وبين مراحل مركبة متداخلة معقدة ملتبسة، انشطار الهوية ، ضبابية الرؤيا، انقسام الجغرافيا، تنافر القيم والمفاهيم ، رحيل المكان.
اقسم الاسير زهير لبادة خلال انفاسه الاخيرة في مستشفى سجن الرملة الاسرائيلي ان نفسا واحدا من انفاس الحرية اكثر عظمة وقداسة من جميع الذين يعيشون طوال الحياة يتنفسون من خياشيم الموت، وكتب: نابلس ، سامحيني، عفوك، عدت اليك في موعد آخر لم نتفق عليه.
يمر الوقت ، والورم يتضخم في جسد الاسير موسى صوفان كما تتضخم المستوطنات والطرق الالتفافية والجدارن ، وكما تتضخم السجون بالمعتقلين، تتضخم دولة اسرائيل الاسبارطية والوطن يصغر، الزنزانة صارت ضيقة اكثر، ما هذا العالم ان كان لا يقدر ان يجيء الا في هيئة الصليب الاحمر او في سيارات نقل الموتى؟ كتب الشهيد الاسير فادي الدربي : جنين سامحيني، عفوك ، عدت اليك بطيئا في فيض اشلاء.
مستشفى الرملة الاسرائيلي ليس اكثرمن متحف للكارثة البشرية في العصر الحديث، ترى فيه اشباحا معلقة بين ساعة الموت وساعة الحياة، الداخل اليه لا يخرج الا ساكتا مكتوما بالنسيان، اكياس وأنابيب تتدلى من البطون المفتوحة ، عربات مقعدين لا تحركها أقدام، وصايا كثيرة لا تجد من يقرأها في خاتمة اليوم الثالث من الشهقات.
الاسير موسى صوفان يحذر كل امريء من روم قد يكون في جسمه، في عقله، في تفكيره السياسي، في هذه المدن المتورمة التي تكتظ بالشعارات والشكليات، اورام في برامج متكلسة، اورام تراها عند الصحو والنوم، اورام في الصباح والمساء، كل يحمل ورمه ويبحث عن طبيب خارج الحدود، يستأصله، يؤهله، يدجنه، يطوعه، يدّوره ويمحوره، ليدوم جمال الألم في دوام الاحتلال، انه الورم الذي اقنعوك انك لا تراه.
الاسير موسى صوفان تعرض لضغوط الاطباء وابتزازهم، إما ان يبقى الورم في جسمه يتفتح وينهش ويكبر ويدمر كريات الدم الحمراء والبيضاء، ويحبس الهواء في الرئتين ويختنق ، وإما ان يوقف اضرابه ويعقد صفقة المساومة الكبرى مع جلادين يرتدون لباس اطباء.
الاسير موسى صوفان يناشد ان نوقف مرضه السرطاني، هو خائف ان ينتشر ويصل الى وسط مدينة رام الله والخليل، ان يتفاقم ليصل القدس وبوايات المسجد الاقصى ، هو خائف ان لا يجد طريقا الى مسشتفى المقاصد او قبرا لائقا تحت شجرة لوز امام بيته في طولكرم، هو خائف من هذا الاغتراب السياسي الوطني، هو خائف مما هو اسوأ من الموت.
الاسير المريض موسى صوفان ، يقف امام بوابة سجن عسقلان يقول كلماته الاخيرة:
اغفروا ما تقدم ايها الصامتون وما قد تأخر مما فيّ من ملح وماء ..
قبور كثيرة تحوم حولي في هذا الفضاء
صفاء العشب ، خواطري البريئة
اكوم ورد لا اراها على الارصفة
قليل قليل من هواء
قليل قليل من غناء
بقلم/ عيسى قراقع