إنها الحكمة، والرصانة، والإيمان بالحق والتمسك بقوته، يتصدى الحق للباطل جهارا نهارا، قولا وممارسة، في الغرف المغلقة كما على المنابر والتصريحات المعلنة، لا يخشى لومة لائم، أو معارضة معارض، متفق مع نفسه ومع شعبه ومطالبه ينشد العدل والأمن والسلام لشعبه وللغير بثقة ثابتة وإيمان صادق بأن الله عز وجل لابد أن يحق الحق والعدل، وأن يزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقا.
هكذا بدا الرئيس الفلسطيني بالأمس على أعلى منبر دولي واثقا وثابتا ومؤمنا وهو يقدم أقوى مراجعة شاملة ومرافعة كاملة، مراجعة سياسية لمسيرة زاد عمرها على ربع قرن، ليضع النقاط على الحروف دون خجل أو وجل، كاشفا بكل موضوعية ووضوح أسباب هذا الفشل لكل الجهود الدولية التي بذلت من أجل التوصل إلى سلام يحقق الحرية والإستقلال للشعب الفلسطيني، وينهي معاناته الطويلة، ويحقق طموحاته في الحرية، ويعيد الأمن والإستقرار المفقود إلى فلسطين والمنطقة.
مؤكدا بما لايدع مجالا للشك أن الذي يتحمل المسؤولية الكاملة عن ذلك الكيان الصهيوني الذي ضرب بعرض الحائط بكل تلك الجهود وواصل ممارسة سياسته العنصرية والإستعمارية متجاوزا على القانون الدولي والشرعية الدولية وقراراتها وكأنه فوق القانون وفوق الشرعية، مستهترا بالمجتمع الدولي وعناصره الفاعلة صغيرها وكبيرها، ذلك ما يفرض على الأمم المتحدة وعلى العناصر الفاعلة في صناعة السياسة الدولية أن تتحمل مسؤولياتها إزاء هذه التجاوزات والإستهتار اللامتناهي من جانب الكيان الصهيوني، وتحمل مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية والسياسية لإخضاعه للقانون وللشرعية ووضع حد لهذه الغطرسة واللامبالاة بحقوق وجهود الآخرين، وبالتالي التأكيد على وقف سياسة الكيل بمكيالين في التعاطي مع القانون الدولي والشرعية الدولية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي.
على ضوء المراجعة الشاملة لتلك المسيرة، بنى مرافعته الأخلاقية والسياسية والقانونية أيضا الشاملة والكاملة عن حقوق شعبه في الحرية والإستقلال والسلام وبناء الدولة المستقلة مؤكدا على عدم تجزئة الحرية والإستقلال، فلا يوجد في قاموس السياسة والقانون نصف حرية ولا نصف إستقلال ولا نصف أمن أو إستقرار، إما الحرية أو العبودية، إما الإحتلال أو الإستقلال، إما الأمن والإستقرار أو الفوضى والعنف المدمر للجميع.
مؤكدا على مطالب شعبه دون مواربة وتأكيد ضرورة إنجازها في وقت محدد لم يعد ينفع معه التسويف والتأخير والتعطيل والتخدير والإنتظار، هذا ما يفتح الأفق أمام إعادة النظر في الإستراتيجية القائمة على حل الدولتين، لتتقدم رؤيا إستراتيجية جديدة وبمفاعيل جديدة تقوم على أساس إنهاء نظام الفصل العنصري الذي تكرسه سياسات الإحتلال الإسرائيلي يوما بعد يوم، كما أنهي نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا سابقا بتضامن المجتمع الدولي، ليحل مكانه نظام واحد يقوم على أساس الحرية والمساواة في الحقوق والواجبات والمواطنة للجميع في كامل إقليم فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، أي قيام الدولة الديمقراطية الواحدة للجميع...
لقد وضع الرئيس أبو مازن الأمم المتحدة والدول الكبرى والصغرى أمام مسؤولياتها في تنفيذ قراراتها المتخذة والتي ستتخذها، لأن شعبنا لم يعد يقبل قرارات معنوية، ورفع عتب دون أن تترك أثرا على الواقع، وتنهي معاناته وتحقق مطالبه وطموحاته.
لقد وضع الإحتلال أمام مسؤولياته وما يفرضه عليه إستمرار إحتلاله، ومصادرته وتعطيله لحقوق الشعب الفلسطيني، وإفشاله لكافة الجهود الدولية المبذولة من أجل تحقيق الحقوق المشروعة وإحلال السلام.
لقد مثل الرئيس أبو مازن الخطاب الفلسطيني في أبهى صوره وأقواها، عكس الواقع كما يجب وبكل شجاعة وموضوعية قل نظيرها.
هذا ما يحتم على الشعب الفلسطيني اليوم أن يزداد وحدة وثباتا وأن ينبذ قوى الفرقة والإنقسام كي يذعن العالم للإنتصار إلى حقوقه المشروعة، ويفرض على العدو الإلتزام بما يتوجب عليه في إنهاء إحتلاله وتمكين الشعب الفلسطيني من العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة وفق رؤية حل الدولتين، وإلا سوف ينتقل النضال الفلسطيني لمرحلة نوعية جديدة وهي النضال من أجل الدولة الواحدة بنظام واحد يقوم على أساس الحرية والمساواة الكاملتين على كل أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وهذا سيؤدي إلى تصفية الكيان الصهيوني وإنهاء مشروعه الإستعماري العنصري فوق أرض فلسطين.
لذا سيبقى اليوم خطاب الرئيس أبو مازن في الجمعية العامة في دورتها 72 الجارية أهم وثيقة سياسية يواجه بها شعبنا الفلسطيني العالم والعدو في آن واحد، من أجل إحقاق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه فلسطين.
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس