في الثاني والعشرين من أيلول العام ٢٠٠٣ ، وقبل ١٤عاماً بالكمال والتمام ، عانقت روح الأديب والشاعر والمفكر والمثقف والقارئ الموسوعي والانسان اللبيب نواف عبد حسن الارض الفلسطينية وارتقت الى السماء ، تاركاً فراغاً كبيراً في حياة اصدقائه ومجايليه ، وفي حياتنا الثقافية والاجتماعية والوطنية ، وهو الضوء الاشعاعي الثقافي والبدر الذي نفتقده في الليالي السوداء الحالكة والمعتمة .
لم يعش نواف حياة الترف في القصور ، بل اختار حياة البساطة والكرامة والقناعة والاكتفاء الذاتي والسير على درب الشرفاء الانقياء، وعالم الثقافة والابداع ، بحيث تحولت غرفته وفراشه الى مرتع للتأمل والتفكير والقراءة ، ومكتبة نفيسة عامرة بالعناوين والمؤلفات الفريدة والمراجع المهمة ، التي يصعب الحصول عليها ، فضلاً عن المجلات والدوريات الثقافية التي كانت تصدر في القاهرة وبيروت ، واذكر كيف كانت صحيفة " النهار " اللبنانية ، ومجلة " الآداب " تصله في البريد عن طريق قبرص .
نواف عبد حسن مصمصاوي المولد والمنشأ والاقامة ، فلسطيني الهوى ، كنعاني الهوية ، ناصري الفكر ، قومي التوجه والرؤية ، شمولي الثقافة والمعرفة ، اتصف بسمو الروح ، وعزة النفس ، واباء الهمة ، ونقاء الكلمة والفكر ، والقدرة العقلية .
ورغم انهائه الدراسة الاعدادية الا انه استطاع التفوق على كل المتعلمين والاكاديميين والنخبويين وحملة الشهادات العليا والدكتوراة ، الذين بزهم بثقافته الواسعة العميقة ، التي تسلح بها من خلال قراءاته المكثفة ، وابحاره في جداول الأدب والتراث والفلسفة والفكر وعلم الاجتماع وعلم النفس ، وغوصه في القرآن الكريم والتوراة ، وامتلاكه ذاكرة قوية ، وعقل غني وعظيم لا حدود لامتداده وعمقه .
أحب نواف ابا الطيب المتنبي احمد بن الحسين ، وشغف بالجاحظ ، وتأثر برسالة الغفران لأبي العلاء المعري وأدبه ، واعجب بالف ليلة وليلة ، والكوميديا الآلهية ، ومتشائل اميل حبيبي ، الذي احله كروائي ، وكان يمقت مواقفه وممارساته ، وانتقد قبوله جائزة اسرائيل في الأدب ، فضلاً عن شعراء مدرسة " شعر " اللبنانية ، ونبي جبران خليل جبران ، والمعلقات التي كتبت بماء الذهب ، والموشحات الاندلسية ، ونشأ على حب اعمال الفلسطيني العراقي جبرا ابراهيم جبرا ومنجزاته النقدية ، ودواوين صلاح عبد الصبور واحمد عبد المعطي حجازي ، وراقه امل دنقل في قصيدة " لا تصالح " ، واطلع على كثير من معالم الحضارة والثقافة الغربية ، فادهشه كارل ماركس وناظم حكمت وتشيخوف وتولستوي ولوركا شاعر اسبانيا ، الذي ترجم مسرحيته الشعرية " عرس الدم " الى العربية .
كذلك طاف في عالم محمود درويش وراشد حسين واحمد حسين وسعود الاسدي وعيسى لوباني ، ونما على حب " الآداب " اللبنانية التي كان يحتفظ باعدادها كاملة ، ولو كان على قيد الحياة وعلم انها توقفت عن الصدور لاحزنه ذلك ولجن جنونه ..!
جمعته علاقات طيبة مع أهل الأدب والثقافة والفكر والسياسة في البلاد ومصر ، الذين شعروا بالفراغ الذي تركه وراءه ، وما زالوا يستحضروه ويستذكروه في المحافل واللقاءات الأدبية كأديب ومثقف وموسوعي متعطش دانماً للمعرفة وانسكلوبيديا فيها الجواب السريع على كل سؤال ، قل مثيله ، ومشرف ومحرر أدبي لمجلة " كنعان " التي اصدرها مركز احياء التراث العربي الفلسطيني في الطيبة التي عمل فيه لفترة من الزمن ، وكان يكتب مقدماتها بلغة الشعر والأدب، وانسان لم تغره المناصب ، ولا المواقع ، ولا الميكروفونات ، ولا المنصات ، وفضل البقاء في دائرة الظل ..!
نواف عبد حسن الفكر المتوقد ، والوعي الثاقب ، والاشعاع الثقافي الأدبي ، والبصيرة النافذة ، والروح الناقدة ، ووهج القصيدة الملتزمة الغاضبة ، والقارئ الفريد المميز الذي غاص في اخاديد التراث وكنوز الكتب ليستخرج منها لآلىء الفكر والنور والثقافة ودرر الكلام .
كان مميزاً في كل شيء ، في سلوكه ، وطباعه ، وقناعاته ، وزيه ، وهندامه ، ونهجه الحياتي ، ومواقفه ، ورؤاه ، وذوقه الخاص ، فكان لا يعجبه أي شيء ، ولا أي كتاب ، ولا اي صاحب قلم .
لم يبحث لا عن مال ولا عن جاه ، بل اكتفى برغيف الخبز ، وفنجان السبرسو وجلسة المقهى الصباحية ، وثمن الكتاب الذي يلف معارض الكتب والمكتبات والاكشاك بحثاً عن عنوانه ، وتكلفة السفر الى مصر لحضور معرض الكتاب الدولي في القاهرة ، الذي كان من زواره ورواده الدائمين ، دون اي اهتمام بالفندق الذي ينزل ويقيم فيه ، المهم ان يكون قريباً من مكتبة العم المرحوم " مدبولي " ، وليس بعيداً عن قاعة المعرض ، وكان يختار النزول والاقامة في فندق " تيوليب " .
اتقن نواف اللغة العربية ، وأدى اطلاعه على الثقافات المتعددة الألوان الى صقل موهبته الابداعية ، وتعميق تجربته الفكرية والثقافية، وكان صاحب موهبة أدبية فريدة نماها بالمطالعة والمعرفة ، وشحذها بالتحليل والمقارنة ، وساعده في ذلك ذكاؤه الحاد الخارق ، وبصيرته النافذة ، وحيويته الدفاقة ، ونشاطه الذي لم بنضب ، ووهبه الله ذوقاً فنياً وحساً ادبياً مرهفاً وحدساً بالغاً ، وعمقاً تفكيرياً ملحوظاً .
قرض نواف الشعر ، وكتب في النقد والأدب ، ونشر نتاجه الادبي والشعري في " الأنباء " و "الشرق " و" مشاوير " و" البيادر " الأدبي ، و" الكلمة الحرة " التي اصدرتها دار ومؤسسة الصوت في الناصرة لنشر الكتاب الوطني وتعميق الفكر الوطني الفلسطيني الملتزم ، التي كان واحداً من أعضائها المؤسسين والنشيطين ، و" كل العرب " و" كنعان " .
وتناول نواف بالنقد والبحث والعرض عدد من نتاجات مبدعينا وشعرائنا المجيدين ، وفي مقدمتهم الشاعر والمفكر احمد حسين " أحمد ناظم " الذي صعدت روحه الى السماء ، قبل فترة وجيزة ، وكان صنوه في الأدب والفكر والتاريخ الهجري والكنعاني ، ورفيق دربه ، وفهم مراد ومغزى ومعنى شعره أكثر منه ، وقدم كتابه " رسالة في الرفض " ، اضافة الى ما كتبه عن الروائي النصراوي عيسى لوباني ، الذي كان يهوى حروفه واسلوبه وكتابته الابداعية الخاصة ، ومجالسته مع شاعر الارياف والتراث الفلسطيني الرعوي سعود الاسدي .
وكتب نواف ايضا مقدمات عدد من الكتب التي صدرت عن مركز احياء التراث العربي الذي اسسه المناضل صالح برانسي ، ومن ضمنها المجموعة الشعرية الكاملة للشاعر راشد حسين .
ولتسمحوا لي باقتطاف هذه السطور بما خطه قلمه المتفرد السلس الانسيابي ، كنموذج لكتابته النقدية ، حيث يقول :
" تبرز في قصائد الشاعر راشد حسين بوفرة ، مفردات تدل على هول السبي الفلسطيني ، من قبل الغزو الصهيوني الاستيطاني على مجتمع مستقر ، فحوله الى شعب تكتظ به الصحراء مشرداً بين الخيام وبين المنافي ، والتقت سكين الابادة الى الجسد الذي ظل من علامات الماضي ، بحيث ادخلت تجربة الفقد الى كل بيت وصارت الارض مزرعة للعويل . هذا السبي الذي ولدته النكبة ، والتي ما زلنا نتنفس مناخها حتى اليوم ، وهي الواقع والتجربة التي عاشها الشاعر وعبر عنها في عديد من قصائد هذا الديوان " أزهار من جهنم " و" الخيمة الصفراء " و" الى ابن عمي في الاردن " و" أنة لاجىء " وغيرها .
لقد توحدت هموم الخيمة مع عذاب واغتصاب القرية العزلاء ، فالانسان الذي شرد وسكن الخيمة هو الارض والبيت والذكريات المسجونة والمحاصرة ، تماماً كالحقل والمحراث الذي ظل داخل الحصار ، ففلسطين تحاصر بالموت والاغتيال يرافقه الصمت ، المفروض ، لتمرير الجريمة ، وعندما تنفلت الصرخة من قلب جهنم ، يتدفق نهر الغضب ، وينغرز في الصدر سؤال يتسع للمفارقة والتي تأتي بحجم الدهشة نفسها .
نواف عبد حسن ودع الحياة بابتسامته المعهودة ، وغاب عن الوجود اثر الجلطة الدماغية التي باغتته ، وترك وراءه ذكريات واحاديث لا تنسى ، وتاريخ واسع وخصب ، وابداعات قيمة ، ومكتبة ثرية وغنية بالمراجع والمؤلفات الكتب والعناوين والمجلات النادرة ، وقد تبرع بها ابناؤه الى مكتبة كلية القاسمي في باقة الغربية .
فذكرى عطرة يا أبا العبد ، يا أخي ابن أمي وابن عمي ، وكم من ليلة عشتها معك نشرب كأس الميرامية وفنجان القهوة المهيلة كما كنت تحب وتهوى، وكما تعودنا ان نحتسي معك ، مع احاديثك الطلية وسهراتك وجلساتك الماتعة بنكهة الزعتر والحبق وعبق كنعان ، وكم احببنا أكل الهليون بالبيض البلدي في اواخر الشتاء وبداية الربيع ، الذي كنت تتجول في الغابات بحثاً عنه في فروش صفورية ، فتأكله نياً او مطبوخاً برفقة الانيس الحبيب" ابو تميم " سعود الأسدي .
عاشت ذكراك خالدة يا أبا العبد ، وستبقى مشعلاً ثقافياً ورمزاً معرفياً ،لم تنجب فلسطين واحداً شبيهاً له .
بقلم : شاكر فريد حسن