فقدت الثقافة العراقية والعربية آخر العاشقين اليهود من اصل عراقي ، البروفيسور شموئيل موريه ( سامي المعلم ) ، استاذ الأدب العربي في الجامعة العبرية في القدس في السبعينات والثمانينات ، واحد المساهمين بجدية وفعالية في المشهد العربي في العراق والبلاد ، الذي هاجر الى اسرائيل في بدايات الخمسينات من القرن المنصرم ، وظل شغوفاً بوطنه ومعتزاً بهويته ، فاغدقوا عليه لقب " حبيب العراقيين " لكونه بقي يرنو بعينيه وقلبه وروحه الى العراق ودجلة والفرات ، عاصفاً قلبه بالشوق والحنين الجارف لملاعب الصبا وازقة وحارات وشوارع بغداد ، وظل في كتاباته يأمل ويتأسى بالعودة الى ربوع الوطن العراقي الجميلة ، مثله مثل الصحفي لطيف دوري ، افليس هو الذي قال :
يا ليتني اعود الى العراق يوماً
فأحدثه بما فعل الفراق
وله ايضاً قصيدة بعنوان " احن الى العراق " يقول فيها :
نضب الشباب في العروق
منتظراً شربة من ماء العراق
وصرت امشي بدل رياحين العراق
وصرت امشي بدل رياحين بغداد
على اليابس من الورود
واحن الى الشباب الحلو في انتصابي
وروائح الجنة في عطر العراق
وابكي شهداء العراق وأطفاله اليتامى
ويا حسان العراق ، كيف بالله
اصبحنا ارامل العراق
نسيت قيثارتي على ضفاف دجلة
تتدلى أغصانها النائحات على مجد العراق
وهرمت منتظراً لياليك الحسان ،
وحسان بغداد ينشدون
بغداد ، يا بلد الرشيد
ومنارة المجد التليد
ويا ارض أجدادي ، شفاك الحب
واحيى موات النخيل في رفرف الخلد من واديك
متى احظى برؤياك
شموئيل موريه قامة أدبية شاخصة وسامقة ، وباحث علمي عميق ، ودارس نبيه ،عرفناه من كتاباته ودراساته ومقالاته التي نشرها في " الأنباء" و" الشرق " ، وقد تسنى لي التعرف عليه في احد اللقاءات الثقافية في تل ابيب في ثمانينات القرن الماضي ، فتلمست فيه الوفاء للعراق ، وحب الانسان ، وصيانته للمبادئ الانسانية والفضائل الأخلاقية التي تربى وشب ونما عليها .
تميز شموئل موريه عن غيره من الذين درسوا الأدب العربي ، بأنه ينطلق من حبه لهذا الأدب ، ويؤمن بانتمائه اليه ، ويحرص على الوقوف على كل تحول وتطور وتجديد ، ودراساته وابحاثه العديدة تعتبر مرجعاً مهماً للدارسين .
امتلك شموئيل موريه ناصية اللغة منذ صباه المبكر ، والقدرة على الاستيعاب والتحليل والاستكشاف ، وجعل من الكتاب رفيقه ورفيق دربه ، والقلم محراثه ، وحافظ على شرف الكلمة التي صاغها والرؤى التي لم يخنها يوماً .
عكف الراحل شموئيل موريه على الكتابة والتأليف وساهم بجدية وفعالية في اثراء المشهد الثقافي في بلادنا بالابحاث والدراسات والمذكرات والكتابات الابداعية ، وبعد خروجه للتقاعد ظل على نشاطه الثقافي وعمله الاكاديمي يواكب ويتابع المستجدات على الساحات الثقافية والادبية ، يكتب وينشر دراساته وبحوثه المتنوعة ومذكراته في مواقع الشبكة الالكترونية ، ويشارك في النشاطات الثقافية واللقاءات الادبية .
الف شموئيل موريه العديد من الكتب اهمها وابرزها : " الأدباء والعلماء اليهود ، فهرس المطبوعات العربية ، القصة القصيرة عند يهود العراق ، مختارات من أشعار يهود العراق الحديث ، بغداد حبيبتي ، الآثار في التراجم والأخبار " وسواها .
وكتابه " بغداد حبيبتي " هو سيرة ذاتية يحكي فيها عن شجونه وذكرياته في بغداد والعراق ، مستعيداً أيام الطفولة والصبا وحياة اسرته والحارات والازقة والاماكن التي عاش فيها وتركت اثراً في نفسه ، وعلاقات الأهل والجيران والعلاقات الاجتماعية الوطيدة القوية ، مؤكداً حنينه لهذه الاماكن وللحياة المشتركة ، وقد استهله بقصيدة طويلة تفيض حباً وحساً انسانياً دافئاً وحنيناً ولغة تحرك العواطف ، اهداها " الى اخوتي واخواتي العراقيين في كل مكان " وهي بعنوان " قالت لي أمي ، والأسى في عينيها " ، اقتطف منها هذه السطور :
قالت لي أمي ،
والقلب كسير :
احن الى العراق يا ولدي
احن الى نسيم دجلة
يوشوش للنخيل
الى طينها العطاء
الى دنياك الخميل
بالله يا ولدي
اذا ما زرت العراق
بعد طول الفراق
قبل الاعتاب
وسلم على الاحباب ،
وحي الديار
وانس ما كان منهم ومنا
وقد جاءت كتاباته في مذكراته متسمة بالعواطف القوية ، والأخيلة الرحبة ، واللغة الشفافة العذبة ، والالفاظ السلسة ، والتراكيب القوية ، وشاعت فيها ومضات متميزة اهمها : حب الوطن ، وحب الحرية ، وحب الحياة ، والحنين الغامر العاصف ، وتكثفت هذه الومضات معاً ، وارتقت به الى مستوى سامق ، وقد اجاد وابدع في التوصيف والتعبير عن حبه وشوقه لبلاده ، بلاد الرافدين .
شموئيل موريه باحث واديب ومثقف وشاعر مبدع مرهف الحس ،اعطى الكثير للادب العربي والثقافة العربية الانسانية ، ووفاته تشكل خسارة فادحة لهما ، ولكن العزاء في ما تركه من ارث ثقافي وأدبي ، وسيرة طيبة ، واسم نقش من ذهب في التاريخ الثقافي العربي والعراقي ، .
شمؤئيل موريه مت واقفاً كالاشجار ، عاشقاً للكلمة الصادقة الشفافة المرهفة ، لم تنس اصلك ولا مرتع صباك ، وبقيت وفياً للمبادىء التي انغرست في صدرك ، نم قرير العين في ضريحك ، وستظل روحك ترفرف شوقاً حنيناً لدجلة والفرات ، وذكراك باقية ما بقيت الحياة في سجل الخالدين ، فالمبدع لا يموت ، بل يتجدد بعد موته .
بقلم/ شاكر حسن