منذ وقعت القدس الشرقية تحت الإحتلال الإسرائيلي، وهو يسعى إلى تغيير معالمها الجغرافية والسكانية، وطمس هويتها العربية الإسلامية والمسيحية على السواء، وفرض وقائع جديدة يوميا بغرض الحيلولة دون عودتها إلى ما كانت عليه قبل حرب الرابع من حزيران للعام 1967م، فقد تمكن من الدفع بمستوطنيه إلى الإقامة والسكن في النطاق الجغرافي لمدينة القدس الشرقية ووضع الخطط البلدية والحكومية، والموازنات الكبيرة من أجل ذلك، حيث أزال في الأيام الأولى حي المغاربة إزالة تامة الواقع على الجنوب الغربي لسور المسجد الأقصى وهجر ما يزيد على ثلاثة آلاف وخمسمائة مواطن، ليقيم مكان منازلهم وزواياهم ومدارسهم ما يعرف بساحة المبكى وإقامة العديد من المنشآت الحكومية الإحتلالية والمرافق الأخرى، من هنا كانت البداية والتي لم تتوقف، وإنطلاق الحفريات أسفل المسجد الأقصى وأسفل العديد من الأحياء المقدسية بحجة البحث عن آثار تثبت إدعاء الصهيونية بوجود هيكل سليمان المزعوم، وتابع هذه الإجراءات الجهنمية والمدانة من المجتمع الدولي والتي صدر بشأنها العديد من القرارات الأممية عن الجمعية العامة ومجلس الأمن إضافة إلى المنظمات المتخصصة، وخاصة اليونسكو بإعتبار القدس الشرقية مدينة فلسطينية خالصة وأن المسجد الأقصى المبارك يخص الفلسطينيين والمسلمين، ولكن سلطات الإحتلال لازالت تواصل سياسات التجاهل المطلق لهذه القرارات والإدانات، وتمارس سياسة تقوم على أساس الوصول إلى تهويد المدينة ومقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى، وتقوم بالتحريض المبرمج للمستوطنين يوميا على إجتياح المسجد الأقصى وباحاته وإقامة الطقوس اليهودية فيها، سعيا منه إن لم يتمكن من الإستيلاء عليه أن يفرض واقعا جديدا يقوم على أساس الشراكة اليهودية الإسلامية في المكان المقدس وصولا إلى تقسيم زماني ومكاني للمسجد الأقصى.
إن خطورة هذه السياسة الإحتلالية تكمن في الدفع إلى تديين الصراع الفلسطيني الصهيوني وتحويله إلى صراع ديني بين المسلمين واليهود ...
قد تصاعدت هذه السياسات والإستفزازات الصهيونية بشكل لم يسبق له مثيل خلال الصيف المنصرم عندما حاولت حكومة نتنياهو تركيب البوابات الإليكترونية على بوابات الأقصى، وتسجيل ومراقبة الداخل والخارج إلى ومن الأقصى، وفرض التحكم فيه بداية لفرض سيطرتها الكاملة عليه، والتي جوبهت بالهبة الشعبية للمقدسيين ورفض الإقرار بهذه الإجراءات والإعتصام على بوابات المسجد، وإقامة الصلوات الخمس يوميا أمامها، ورفض الإقرار بهذه الإجراءات والتغييرات التي كان يحاول الإحتلال فرضها بحجة توفير الأمن، إلى أن أذعن الإحتلال إلى تفكيكها وإزالتها وإبقاء الوضع كما كان عليه قبلها.
لقد تمكن المقدسيون والمقدسيات من خلال هذه الهبة بل الإنتفاضة الشعبية أن يؤكدوا على تمسكهم بهوية مدينتهم وحقهم في مقدساتهم ورفضهم لكل الإجراءات التي تمس هذه الحقوق بشكل أو بآخر، كما تمكنت هذه الإنتفاضة من إعادة الإعتبار لمركزية القدس في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لتمثل حلقة مركزية لن يتهاون فيها الفلسطينيون ولن يسلموا أو يستسلموا لإجراءات الإحتلال، بالتالي حددت مصير القدس مستقبلا شأنها شأن بقية الأراضي المحتلة في العام 1967م، وأنها لا يمكن أن تكون محلا متنازعا عليه، وإنما هي مدينة فلسطينية محتلة وتمثل عاصمة للدولة الفلسطينية يتوجب إنهاء الإحتلال عنها وإزالة كافة التغييرات التي أجراها الإحتلال فيها على مدى خمسين عاما من إحتلالها، وتتواصل إنتفاضة القدس يوميا وبأشكال متعددة كما تتواصل سياسات الإحتلال الإستفزازية في الأحياء المختلفة لمدينة القدس ومحيطها، فالقدس باتت تمثل مركز الصراع، لا يمكن تجاهله في أي مسعى إقليمي أو دولي يستهدف الوصول إلى تسوية مؤقتة أو دائمة إلا والقدس في قلبها.
من هنا تأتي دعوات حكومة نتنياهو للإدارة الأمريكية وعلى رأسها إدارة الرئيس ترامب لنقل سفارة الولايات المتحدة إليها، وقد أدركت إدارة الرئيس ترامب أن الإقدام على مثل هذا الفعل يعقد بل يغلق الطريق أمام الولايات المتحدة بأن تكون راعيا لأية تسوية كانت ويضعها طرفا إلى جانب الإحتلال في مواجهة ليس الفلسطينيين فقط وإنما معهم كافة العرب والمسلمين، وكذلك في مواجهة المجتمع الدولي الذي سطر العديد من القرارات الدولية بشأن القدس والتأكيد على هويتها العربية الفلسطينية وإعتبارها أرض محتلة، وإدانة كافة الإجراءات الهادفة إلى تغيير معالمها الجغرافية، وتركيبتها السكانية.
فالقدس جوهر الصراع ومركزه، ولا تسوية للصراع مع بقاء القدس محتلة، ولا مجال بالتالي للحديث عن صفقة كبرى أو صغرى كما تبشر بها الإدارة الأمريكية دون إنهاء للإحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس شأنها شأن بقية الأراضي المحتلة، فمن القدس يبدأ السلام ومن القدس تنهار أية عملية سلام، فهل يدرك الإحتلال الإسرائيلي ومعه الإدارة الأمريكية هذه الحقيقة، بل المسلمة، أنه لا سلام دون القدس، ولا دولة فلسطينية دون القدس الشرقية عاصمة لها، وأن المقدسيين والمقدسيات ومن وراءهم الشعب الفلسطيني قد رسموا مستقبل القدس في أية تسوية أو حل للصراع، وأنهم لديهم القدرة على الإستمرار في هبتهم وإنتفاضتهم إلى أبعد مدى، لا يمكن أن يتصوره أحد، ليحسموا مستقبلهم ومستقبل مدينتهم عاصمة لكيانهم المستقل ...
بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس