ترامب وسياسة صناعة الأعداء والأضداد

بقلم: عبد الرحيم محمود جاموس

يخطئ من يعتقد ولو لوهلة، أن الرئيس ترامب قد خرج على المألوف في السياسة الخارجية الأمريكية على المستوى الدولي، وخاصة على مستوى منطقتنا العربية الشرق أوسطية منذ الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، ولم يشوبها تغير سوى في التكتيك أو بعض الأساليب، كان ولا زال الكيان الصهيوني يمثل الركيزة الأساس للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والحليف الإستراتيجي الأوحد، ولذا يتركز هم الإدارات المتعاقبة على حكم الولايات المتحدة على ضمان أمن الكيان الإسرائيلي، وضمان تفوقه الدائم على الدول العربية فرادى ومجتمعة، وتوفير الحماية القانونية له على مستوى الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، كما تتعهد السياسة الخارجية الأمريكية في هذا الشأن ليس إلى تخفيف حدة الصراع العربي الإسرائيلي وتحويله إلى مجرد نزاع فلسطيني إسرائيلي تبحث له عن مهدآت أكثر مما تبحث له عن حلول جذرية، فقد إنتقلت السياسة الأمريكية خلال العقود الأربعة الماضية التي أعقبت حرب أوكتوبر 1973م، إلى تبريد الصراع إلى أقصى درجة ممكنة من خلال الحلول والإتفاقات الإنفرادية التي بدأتها بسياسة الخطوة خطوة في عهد الرئيس نيكسون وبلورها الرئيس جمي كارتر ووزير الخارجية هنري كيسنجر وتوجت بإتفاقات فك الإشتباك ثم توقيع معاهدة الصلح المصرية الإسرائيلية ليلحق في هذا السياق مؤتمر مدريد للسلام 1991م وما نتج عنه من توقيع إتفاق أوسلو بين م.ت.ف والكيان الصهيوني في سبتمبر 1993م ثم توقيع إتفاق وادي عربة للسلام بين الأردن والكيان الصهيوني 1994م .. ويضاف إلى ذلك القرار الأممي 701 الذي يضبط الحدود بين الكيان الصهيوني ولبنان منذ حرب عام 2006م ..الخ.

كما تتوازى مع هذه السياسة القائمة على تبريد الصراع العربي الإسرائيلي والسعي إلى دمج إسرائيل في المنطقة من خلال سلسلة من التغييرات السياسية والإقتصادية والإجتماعية والأمنية شهدتها وستشهدها المنطقة في المراحل المقبلة، ومن أجل أن يتم تبريد هذا الصراع الأساسي الإستراتيجي في المنطقة لابد من إحداث صراعات داخلية وبينية في الدول العربية وفيما بينها وفيما بين دول الجوار العربي وفي مقدمتها إيران، وهنا وفي هذا السياق كان لابد من إسقاط حكم شاه إيران في نهاية عقد سبعينات القرن الماضي وإستبداله بنظام جديد وتحويل إيران من حليف إستراتيجي مباشر إلى عدو لأمريكا وسياساتها، وعدو لدول الجوار العربي ولإسرائيل، ليقع العرب بين عدوين هما إسرائيل من جهة وإيران من جهة أخرى بل يتقدم العدو الإيراني على العدو الإسرائيلي لدى البعض العربي، وأكثر من ذلك أن ينظر لإسرائيل ربما كحليف للعرب في مواجهة السياسات الإيرانية، وإيران التي أتقنت دورها ما بعد الشاه في إعلان التحدي للسياسات الأمريكية في المنطقة كما للسياسات الإسرائيلية وإعلان تهديداتها لوجود الكيان الصهيوني ... وإعلان دعمها للمقاومة الفلسطينية واللبنانية إلى درجة التبني الكامل لحزب الله الذي إنفرد بالمقاومة للإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان وخاض حرب 2006م مع الكيان الصهيوني بدعم كامل من إيران كما تبنى بعض الحركات الإسلامية في فلسطين في نفس الوقت الذي أطلقت فيه الولايات المتحدة يد إيران في العراق بعد إحتلاله من قبل القوات الأمريكية والبريطانية والغربية في عام 2003م، ونصبت عليه القوى الحزبية والطائفية الموالية لإيران، ولم يعد خافيا على أحد كيف تم صناعة العدو الوهمي للولايات المتحدة بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي وتجسيده في الإسلام السياسي المتطرف وتتويج ذلك في عهد إدارة الرئيس بوش الإبن عند وقوع حادثة الإعتداء على برجي التجارة العالمية في 11 سبتمبر 2001م، والعمل على إظهار نسخة سياسية إسلاموية معتدلة يمكن أن تكون حليفا للولايات المتحدة في مواجهة الإرهاب الإسلامي ممثلا في القاعدة ومستنسخاتها من داعش وغيرها .. الخ من التشكيلات التي قد تظهر بين الفينة والأخرى، ثم الإعلان من طرف كونداليزا رايس في عام 2006م عن العمل على إقامة شرق أوسط جديد وتبني سياسة الفوضى الخلاقة .. إلى التدخل السافر في شئون الدول العربية فيما عرف بالربيع العربي منذ نهاية 2010م ودعم حركات التغيير التي تزعمتها بالأصل قوى إسلاموية سياسية من حزب النهضة إلى الأجنحة المختلفة لجماعة الإخوان المسلمين، تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن وحتى في دول الخليج وتوفير ما يلزم لها من الدعم المالي، إلى الإنقلاب عليها مع بداية عهد الرئيس ترامب.

إن هذه السياسة الأمريكية التي باتت واضحة للعيان ولا تحتاج لجهد كبير لإكتشافها والمنتهجة من قبل الإدارات الأمريكية المختلفة والمتعاقبة والتي تقوم على صناعة الأعداء وصناعة الأضداد في المنطقة والتي توفر المناخ الملائم والمناسب لضمان المصالح الأمريكية في المنطقة العربية وضمان أمن إسرائيل وتفوقها، وضمان تدخلها المباشر في دول المنطقة كما حصل في العراق وليبيا وسوريا ..الخ.

لقد بات فن صناعة الأعداء والأضداد صناعة أمريكية متفوقة على السياسة التي كانت تنتهجها بريطانيا العظمى أيام كانت إمبراطورية لا تغيب الشمس عن مملكتها والتي كانت تقوم على مبدأ فرق تسد، وقد ورثتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية مباشرة وإلى الآن كقوة عظمى تتصدر دول العالم في الهيمنة والنفوذ والمصالح العابرة للدول والقارات، إن السلام الدولي الحقيقي والسلام بين الشعوب داخل الدولة الواحدة .. كل هذا يتعارض مع المصالح والسياسات المنتهجة والمتبعة من إدارات الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبة لأنه يلغي مبررات تدخلاتها وفرض هيمنتها على الأخرين وجعلهم أسواقا لمنتجاتها المدنية والعسكرية وغيرها.

لماذا لا تنقسم أمريكا في حين مسموح لكل الدول والشعوب أن تنقسم، ينقسم السودان وتنقسم سابقا فيتنام وكوريا، والصين، ويفكك الإتحاد اليوغسلافي والإتحاد السوفيتي وينقسم العراق وسوريا واليمن وأي دولة أخرى، كما تنقسم أسبانيا وغيرها من دول العالم وحتى غزة والضفة تحت الإحتلال تنقسم بالإرادة والتخطيط الأمريكي، ولكن الولايات المتحدة المترامية الأطراف والمتعددة الأعراق والديانات والمشكلة من خمسين ولاية دولة داخلية لا يسمح لها أن تنقسم ولا يوجد هناك مبررات الإنقسام التي تنقسم على أساسها الدول والشعوب الأخرى سواء كانت مبررات إثنية أو دينية أو طائفية أو إقتصادية أو غيرها ...

أليست إذن فرق تسد لازالت سائدة .. بل تطورت في العهد الأمريكي وأخذت مناحي أكثر عمقا وإستراتيجية، والأغبياء في مختلف الدول والشعوب يرقصون طربا على لحن هذه السياسات الجهنمية التي ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية.

وهنا يبرز دور الرئيس ترامب، الذي سبق أن وصفناه في إحدى مقالاتنا في بداية تسلمه للحكم بأنه رئيس فج ليقدم النموذج الأنجح بين الرؤساء الأمريكيين في الإلتزام بهذه السياسة التي تخدم مصالح الولايات المتحدة على المستوى الكوني وعلى مستوى منطقة الشرق الأوسط والمنطقة العربية بالتحديد، ليعطي دفعة جديدة في توتير الأوضاع العربية العربية والعربية ودول الجوار والعمل على ضمان المصالح الأمريكية، وتوفير المناخات الملائمة لنموها وتطورها، وضمان أمن الكيان الصهيوني والعمل على دمجه في المنطقة الشرق أوسطية وتأهيله ليكون اللاعب الرئيسي في تناقضات وصراعات المنطقة المقبلة، من خلال اللعب على التناقضات المتفجرة داخل الدول العربية وما بينها وبين دول الجوار وفي المقدمة منها إيران التي تواصل سياساتها هي الأخرى في التدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن ودول الخليج وتهدد الإستقرار في المنطقة، إلى إعلاناتها اللفظية في تحدي السياسات الأمريكية وتحدي الكيان الصهيوني، وتبنيها للطائفية السياسية التي تنسف وحدة المجتمعات، ذلك ما يقدم أكبر خدمة للسياسات الأمريكية القائمة على صناعة الأعداء والأضداد، ويخلط الأوراق والحسابات وتختفي صورة المهيمن الأساسي والمستفيد الأول من هذه السياسات هو الولايات المتحدة والخاسر منها كافة الدول والشعوب وخصوصا الدول العربية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.

الرئيس ترامب ليس غبيا كما حاول بعض الإعلاميين وصفه حتى في الإعلام الأمريكي والغربي بشكل عام، وإنما هو نعم رئيس فج ولكنه رئيس ذكي يمثل أعلى درجات الذكاء في خدمة المصالح الأمريكية الإستراتيجية على مستوى العالم وعلى مستوى منطقتنا العربية بالتحديد فمن خلال خطابه الذي ألقاه يوم 13 10 الجاري والذي حدد فيه أعداء الولايات المتحدة وفي مقدمتهم كوريا الشمالية وإيران، وحمل فيه على إيران حملة شديدة، ودعى للحفاظ على تحالفات الولايات المتحدة لمواجهة الإرهاب وهزيمته، والإعلان عن رفضه التصديق على الإتفاق النووي الإيراني الموقع في 2015م من قبل الإدارة السابقة وإعادته للكونغرس لمحاولة إضافة تعديلات معينة عليه، ورغم ما قوبل به من إستهجان من الأطراف الأوربية الأخرى الموقعة على الإتفاق، يكون قد جدد للدور الإيراني مبررات سياسته القائمة على التدخل في شؤون الأخرين في المنطقة وترسيخ الطائفية السياسية في المنطقة وكأنها سياسة ثورية معادية للسياسات الأمريكية وللكيان الصهيوني، وأجج المشاعر العربية لمواجهة سياسات إيران ليبقى الصراع الإيراني العربي متأججا وقابلا للإنفجار في كل لحظة، كما جدد للكيان الصهيوني دوره المتنامي في المنطقة من خلال الإستهداف الإيراني الإعلامي له، بل ومهد لإدخاله في التحالف المحلية لمواجهة الخطر الإيراني مستغلا الجهل والخنوع العربي للسياسات الأمريكية، وذلك على حساب القضايا العربية الحقيقية في التنمية والأمن والإستقرار من جهة، وعلى حساب الشعب الفلسطيني وقضيته ومستقبله، جاعلا من الصراع العربي الإسرائيلي نزاعا فلسطينيا إسرائيليا بسيطا يمكن علاجه وتهدأته من خلال ما يروج له من جهود لم تفصح عنها الولايات المتحدة لغاية الآن تحت مسمى صفقة العصر أو صفقة القرن، تقوم على أساس التطبيع والإعتراف العربي بالكيان الصهيوني مقدمة لإنهاء النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

نعم إنها سياسة صناعة الأعداء والأضداد التي تتقنها الولايات المتحدة خير إتقان وترتكز عليها السياسة الخارجية الأمريكية في إدارة علاقاتها الدولية وتحقيق مصالحها بأفضل شكل ممكن.

بقلم/ د. عبد الرحيم جاموس