الصين عولمة الحرير مقابل عولمة النار

بقلم: عدنان الصباح

مئات مليارات الدولارات انفقتها الصين في سبيل تعزيز مشروع قائدها الثالث عبر مائة عام تقريبا شي جين بينغ والذي اطلقه في العام 2013 تحت شعار " حزام واحد ... طريق واحد " والذي تسعى من خلاله الصين الى تعزيز قدرتها على مواجهة النفوذ الامريكي في اسيا كمدخل الى قدرتها على الوقوف اقوى في وجه الولايات المتحدة, المليارات تلك ذهبت على شكل قروض قدمتها الصين لدول الحزام في مشاريع اقتصادية ضخمة.

حزام واحد هو حزام الطرق التجارية التاريخية والذي ربط الصين تاريخيا في دول اسيا والشرق الاوسط اما الطريق الواحد فهو الطريق البحري الذي ربط الصين بإفريقيا وهذا الشعار مستوحى من طريق الحرير الصيني التاريخي الذي يذكرنا بالإمبراطورية الصينية القوية والمؤثرة اقتصاديا وسياسيا في العالم.

الحزام الواحد والطريق الواحد يسعى لفتح ابواب التواصل الصيني مع سائر العالم في اوروبا واسيا وافريقيا وهو على ما يبدو يستثني وان انيا الأمريكيتين اما للأسباب لوجستية واقتصادية بحتة او لأسباب سياسية قد تكون تعتمد على مبدأ خطوة الى الامام في سبيل قفزة اوسع قد تكون بهدف الهبوط على راس الغول الامريكي الامبريالي الاكثر بشاعة عبر التاريخ.

حزام واحد – طريق واحد مشروع يشمل المبادرة لبناء ممر يربط آسيا بأوروبا، الى جانب تطوير الممرات الاقتصادية التي تربط الدول الآسيوية بأوروبا، وكذا يوجد عدة ممرات مقترحة ومنها، طريق الشمال من الصين إلى آسيا الوسطى، ثم روسيا فأوروبا وانتهاء ببحر البلطيق, وطريق آخر من الصين الى الخليج العربي والبحر المتوسط وآخر الى جنوب وشرق آسيا وصولا الى المحيط الهندي.

المبالغ التي اعلن عنها الزعيم شي في ايار عام 2017 كصندوق لدعم المشروع بين هبات وقروض ومساعدات ومشاريع استثمارية وصلت الى ما يقارب التريليون يوان اي ما يفوق المائة مليار دولار وبالتالي فان النطق السياسي والاقتصادي يقول انه يستحيل على مشروع مثل هذا المشروع ان يكون مشروعا اقتصاديا بريئا من السياسة وهو لا يمكنه الحياة ان لم تدعمه السياسة بوجهيها العصا والجزرة.

في ايار 2017 عقدت الصين مؤتمرا دوليا بحضور زعماء 29 دولة للإعلان عن مشروعها حزام واحد – طريق واحد او ما تم اختصاره الحزام الطريق وقد قدم الزعيم الصين المشروع بصورة لم يتوقعها احد واصفا اياه بانه مشروع وقد قال الزعيم الصيني في معرض تقديمه لمشروعه بان بلاده هي مستكشف محب للسلام يهدف الى تحويل العالم الى قوافل محملة بالكنوز وليس السفن الحربية او البنادق او السيوف ملمحا لتجارة امريكا مع العالم.

المؤتمر حضره زعماء روسيا وتركيا وايطاليا واستبعدت منها باقي الدول الثمانية الكبار وقال الزعيم الصيني ان مشروعه يسعى الى تشييد نسخة جديدة من طريق الحرير القادم وعصر ذهبي جديد من العولمة ومحاولة جريئة لبدء عصر جديد من العولمة وبمعنى آخر نسخة صينية بديلة للنسخة الامريكية من العولمة وهو بهذا يضع الصين في مواجهة مباشرة مع مشروع العولمة الامريكي ويقدم الصين لتحل محل امريكا والاتحاد الاوروبي بعد تغييب او غياب بريطانيا عنه, ولذا وجد المشروع انتقادات كبيرة من اطراف عدة فالهند كأحد الدول المستهدفة من المشروع اعتبرته محض مغامرة استعمارية ستخلف ورائها دول مثقلة بالديون مشيرة بذلك الى حجم الديون التي ستتحملها دول الجوار للمشاركة بالمشروع والتي قد لا تستطيع تسديدها مما يضعها تحت رحمة السيطرة الصينية, وكذا ابدت المانيا رسميا وعديد الخبراء الغربيين تشكيكهم بالنوايا الحقيقة للصين وما يهدف اليه مشروعها الجديد.

يعود تاريخ المشروع الى ما عرف باسم طريق الحرير حين كانت الصين البلد الاول في العالم في صناعة الحرير بفنون لم يرق اليها احد وسعى العالم لاقتنائه بشتى السبل حتى وصلت قيمته الى وزنه بالأحجار الكريمة وكانت الصين قد بات صناعة الحرير قبل خمسة الاف سنة وهو ما شجعها على فتح شبكة طرق الحرير مع العالم بكل جهاته, واليوم تترافق الفكرة الجديدة مع رؤية اكثر شمولا في بعد ان برزت الصين كأقوى قوة انتاج صناعي وسلعي خفيف في العالم وباتت اليوم قبلة التجار والصناعيين من كل انحاء العالم وغزت السلع الصينية الاصيلة او المقلدة بقاع الارض وباتت العديد من شركات العالم بما في ذلك اهم الماركات العالمية تعتمد المصانع الصينية والايدي العاملة الصينية كمنتج لسلعها بديلا لبلادها الاصلية, ذلك فتح شهية الصينين بشقيهم الاقتصاديين والسياسيين وهو ما دفع بزعيم البلاد ان يتحدث عن عولمة جديدة دون ان يسميها بالعولمة الصينية.

الزعيم الصيني ينطلق بمشروع العولمة الجديد بمسمى حزام واحد – طريق واحد في وقت يتراجع فيه ترامب الى شعار امريكا أولا, وقد تجد الصين في ذلك فرصتها للانتقال خطوة الى الامام محاولة الهبوط بسرعة على راس الغول الامبريالي الامريكي, قبل ان يغادر معطف بياته الشتوي في صيف لن يطول انتظاره, فالفرق شاسع بين نظام الحكم في الصين والولايات المتحدة, ففي حين يبدو الرئيس الصيني واثقا من مواصلة حكمه بعد انتهاء اعمال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الحاكم, بنجاح يذكر بأيام ماو تسي تونغ ودينغ هسياو بينغ, يبدو الرئيس الامريكي مترنحا تحت سياط التحقيق والتشكيك الذي يتعرض له واركان حكمه وحزبه, الذي لا ضمانات حقيقة له حتى في اتمام فترة حكمه كرئيس منتخب, وبالتالي فان المعطف الوطني الذي لبسه ترامب سيتمزق ليعيد للغول صحوته فور مغادرة ترامب بيت الحكم الابيض في العاصمة واشنطن, وعندها قد لن ينفع الاكتفاء بنعومة حرير الصين الضارب عمق التاريخ لأكثر من خمسة الاف عام امام امبريالية بشعة ومستغولة لم يمر على وجودها أكثر من خمسمائة عام.

الامور خارج بوابات الصين ليست بالبساطة التي يعتقدها العم شي فخارج بلادها لا احد يعترف بالمضمون الابوي والاحترام العميق الذي يمثله لقب العم في الصين صاحبة الثقافة الشرقية والفلسفة الكونفوشيوسية القائمة في جوهرها على الاخلاق والقيم السامية والاحترام والتي تعترف بالرجل ال " جونتسة " او الشريف والذي تجتمع فيه كل الفضائل فخارج عالم الفضائل تقف عوالم المصالح والتي يحاول العم تشي اقتحامها بقيم السفن المحملة بالكنوز في زمن سفن القتل والدمار وهو لن يجد قبولا حقيقيا في دول الجوار كالهند وباكستان قبل الدول المنافسة اقتصاديا في اوروبا وكذا لن يجد ولايات متحدة غائبة عن ما يسعى اليه, وقد يكون الحديث عن عولمة جديدة تذكير حتى لأعداء امريكا بان الصين تسعى للحلول مكان امريكا في سيطرتها على العالم عبر شعار العولمة باستخدامها نفس الشعار وهي المخاوف التي عبرت عنها الهند بأبهى صورة ممكنة من التشكيك.

قد لا يكون صحيحا اختيار التوقيت والشكل الاحتفالي للإعلان عن المشروع واهدافه بهذه البساطة التي تفتقد لروح الحكمة الصينية المعروفة, فالأسلوب والشكل يدلان على اهداف واضحة لملء الفراغ الامريكي المنتظر في العالم والذي لا يوجد ما يشير الى قرب حدوثه بهذه البساطة وبالتأكيد فان الصين تدرك جيدا ان الغول الامبريالي لم يغمض عينيه عنها بعد وان كانت اقوال ترامب تشير الى احتمالية مزيفة لذلك, كما ان الاعتماد على شراكات مع دول مثل باكستان ومصر والعرق على سبيل المثال كشركاء في المشروع بعيد المدى يجب ان لا يتناسى او يغفل عن الفروق الشاسعة والفجوة الكبيرة بين ثقافات الاطراف المشاركة وكذا الاهداف والمصالح المتباينة احيانا مع وجود ارث تبعية عميق للبعض للقوى الامبريالية الغربية وهو ما سيجعل مثل هذا التحالف قائم على المصالح الانية والكسب السريع واذا وجدت دولة مثل باكستان نفسها غير قادرة على تسديد ديونها للصين فهي قطعا ستشعل كل نيران الفرقة وستستعين بالشيطان الامبريالي في مواجهة الصين وليس العكس.

الحرب اذن بين عولمة الخير وعولمة الشر عولمة تسعى لها الصين بقوافل الخير لا قوافل الحرب هي النموذج الذي يسعى الرئيس الصيني الى الكفاح في سبيله وجعله مشروع بلاده في القرن الحادي والعشرين وقد تم تثبيت ذلك في برنامج الحزب الشيوعي الصيني الحاكم في مؤتمره التاسع عشر اخيرا ليصبح ملزما للحزب قبل الدولة معلنا بذلك بداية عهد جديد من المواجهة المختلفة عما كانت عليه الامور ابان الحرب الباردة بين الاتحاد السوفياتي والغرب فقد استخدمت الصين حق النقض الفيتو ستة مرات ضد المشاريع الغربية فيما يخص القضية السورية قاصدة بذلك القول لأمريكا ان عصر الهيمنة قد ولى الى غير رجعة.

بقي على العم شي وحزبه ان يدركوا جيدا ان الخبز يملأ البطون الخاوية صحيح, ولكن مكانته ودوره وتأثيره سيذهب في النهاية الى المجاري, ان لم يرافقه ما يملأ فراغ الدماغ, فلا يكفي ان تقيم مشاريع اقتصادية وعلاقات اقتصادية مع الانظمة الحاكمة وتدير الظهر للشعوب ومكانتها, وقد اخطأ الاتحاد السوفياتي كثيرا حين كان يفصل العلاقات الدولية عن العلاقات الشعبية والكفاحية, ويقدم العلاقات مع الحكومات على العلاقات مع القوى الشعبية والاحزاب لصالح الابقاء على مصالحه, حتى انه لم يجد كثيرا ليسيروا في جنازته لحظة الوداع الاخير, فالمشروع الصيني محكوم عليه بالفشل مسبقا ان ظل حبيس الرؤية الرومانسية لشعار نعومة الحرير في مواجهة السلاح وقوة النار, فالاستغوال الامبريالي لا رادع له بنعومة الحرير الا بإرادة الشعوب المتسلحة بحقها بالحياة الحرة والكريمة وبإدراكها انها قادرة على فعل ذلك ان هي ارادت, وان القدرة على دفع الجنود وصغار الضباط في الدول الاستعمارية للتوقف عن القيام بمهمة القاتل الماجور لصالح قوى الرأسمال, هي الاداة الثورية الاكثر قدرة على تحقيق شعارات الحرية والعدالة للبشرية على وجه الارض, في مواجهة صلف واستغوال الإمبرياليين ناهبي خيرات الامم وقوتها, وفقط حين تتوقف اكف حاملي البنادق ومشغلي الدبابات والطائرات والصواريخ عن الضغط على الزناد لتقتل لصالح أصحاب المال ستنتصر البشرية على لصوصها وتنعم بسلامها على أرضها.

المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني خرج بمعطيات جديدة تقدم البلاد على انها القوة المواجهة للإمبريالية الغربية وبصورة جديدة لكن بنفس ادوات العسكر القديم فهي لا زالت ودون ان تنفتح على العالم بثقافتها وهي لم تعظ ابدا من تربة الحرب الباردة وما فعله الاعلام الغربي وبذا لا زالت الصين بعيدة عن استخدام سلاح الاعلام للتأثير بالجماهير في العال ولم تقم نفسها كنموذج يحتذى في العالم الخارجي ومع ان المنتج الصيني بات يجتاح الارض لكن ليس كسلعة سوبر ولا حتى قريبة الى السوبر فهي في الثير من الحالات تعتبر سلعة ادنى وغير مروب فيها وتحاك حولها النكت وبالتالي فاذا ارادت الصين ان تلعب دور القطب المساوي فان امامها مسيرة طويلة لتتمكن خلالها من هزيمة النوذج الغربي الساحر والذي بات يشكل النموذج المرغوب للأجيال الشابة وهي مطمع الاجيال الشابة في العيش فيها خصوصا الجيل الشاب ي القارات المستهدفة ن قبل الصين اسيا وافريقيا بما في ذلك منطقة الشرق الاوسط.

مع كل ما تقدم فان الصين وحدها قادرة على لجم الغول الامبريالي الامريكي وحلفاؤه ان هي ادركت السبل الصحيحة لتقديم نفسها كبديل حي وقوي ونموذج تحتذي به الاجيال وهي في سبيل ذلك عليها ان تدرك ان تصدير النماذج الجاهزة كفكرة النسخة الصينية للاشتراكية او الاعتماد على القوة المالية او الكم البشري او القوة العسكرية دون ادراك اهمية العقل والتثقيف والاقناع وتقديم النموذج ودور الاعلام واتقان ن التحالفات والتناقضات وفي روح المصلحة والمبادئ معا فان احدا لن يكترث لما يسعى اليه العم شي وحزبه وقد يجدون انفسهم عرضة للنار الامبريالية ولو من باب الوقاية ما داموا قد اعلنوا عن نواياهم علنا وبدون تحضير للذات والاخرين بشكل يكفي لتحقيق الانتصار.

باختصار شديد فان استخدام سلاح عدوك نفسه للانتصار عليه هو نوع من الحماقة فهو الاقدم والاكثر دراية وقدرة منك باستخدام سلاح هو سيده ومضى عليه زمن طويل من الاستخدام اكسبته خبرة لا تدريها انت وعليك اذن ان تبتكر سلاحك الذي يفاجيء عدوك ويجعله يترنح امام سلاح لا يدري ابدا طريقا لاستخدامه والعولمة شمروع سيء الصيت ولا يجوز لقوة تدعي سعيها لخلاص البشرية ان لا تجد سبيلا لذلك الا نفس شعار اعداء البشرية مهما تم السعي الى تجميله فهو سيبقى في جوهرة يعني سيطرة القوة الواحدة مهما كانت شعاراتها ومبادئها.

بقلم/ عدنان الصباح