مسلسل الخطط الأمريكية للتسوية من كامب ديفيد الأولى وحتى صفقة القرن المرتقبة

بقلم: الأسير كميل أبو حنيش

منذ ما يربو على نصف قرن والإدارات الأمريكية دأبت تستخدم القضية الفلسطينية كإحدى أهم الأوراق في يدها بهدف إبقاء نفوذها في المنطقة ومنع أي دولة أو مجموعة دول الاقتراب من هذا الملف، وذلك بعد أن سلم العرب ومن بعدهم الفلسطينيون مفتاح الحل للولايات المتحدة.

ومع كل إدارة أمريكية جديدة كانت تخرج لنا خطة أو طبخة سياسية جديدة دون أن تحدث أي اختراق لحل القضية الفلسطينية، بل على العكس كانت سياسات الولايات المتحدة الامريكية معروفة بانحيازها السافر للكيان الصهيوني وتبنيها لموقفه في مختلف محطات الصراع، وساهمت في إشعال الفتن والحروب في المنطقة بدلاً من تهدئتها، وليس بعيداً عنها سلسلة الأزمات التي ضربت المنطقة، حيث كان للولايات المتحدة الدور الأبرز في إشعالها وتأييدها، من الحرب الأهلية اللبنانية، والحرب العراقية الإيرانية وإدانتها بسياسة الاحتواء المزدوج، واجتياح لبنان عام 1982، مروراً بحرب الكويت، ودعم "إسرائيل" في حروبها بالمنطقة، وليس أخيراً احتلال أفغانستان والعراق، والحرب على الإرهاب وإشعال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، حيث كان لهذه السياسات انعكاساتها على القضية الفلسطينية، وربحاً صافياً للكيان الصهيوني وسياساته العدوانية في المنطقة.

أما المبادرات السياسية الأمريكية فمنذ إدارة "جونسون ونيكسون"، وصولاً لإدارة "كارتر" التي جرى في عهدها اختراق الجبهة العربية ووقُعت اتفاقية كامب ديفيد دأبت الإدارات الأمريكية منذ ذلك الحين في نشاطها المحموم والمنسجم مع الموقف الإسرائيلي على عرض تصوراتها عن الحل الشامل والذي يهدف إلى تكريس " إسرائيل" كقوة إقليمية مركزية ووحيدة في المنطقة وتعزيز تحالفاتها مع بعض الدول الإقليمية التي تدور في فلك الولايات المتحدة".

 أما تصوراتها عن حل القضية الفلسطينية فلم تذهب أبعد من الحكم الذاتي الذي اقترحه "بيغن" على "السادات" في اتفاقيات كامب ديفيد، وهذا هو محور عمل الدبلوماسية الأمريكية منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا.

وفي أعقاب الاجتياح العدواني للبنان عام 1982 وإخراج منظمة التحرير إلى المنافي نشطت إدارة " ريغن" في محاولة فرض حل على الفلسطينيين عبر  البوابة الأردنية والصيغة المطروحة في ذلك الحين التقاسم الوظيفي بين الأردن و"إسرائيل"، إلا أن الشعب الفلسطيني أفشل هذا المخطط منذ إعلانه، والتمسك بمنظمة التحرير كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، ولم تلبث أن اندلعت الانتفاضة الأولى والتي وضعت "إسرائيل" في مأزق لينشط وزير خارجية أمريكا في ذلك الحين " جورج شولتز" في جولاته المكوكية في المنطقة في محاولة استكشاف إمكانية خلق قيادة محلية بديلة والقبول بالصيغة الأمريكية للحل، إلا  أن تأجج الانتفاضة وتصاعدها أفشل مثل هذه الإمكانية، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي واندلاع حرب الكويت سنحت الفرصة للأب " بوش" ووزير خارجيته " جيمس بيكر"  في شق مسار التسوية بعد الإعلان عن مؤتمر مدريد للسلام الذي مهد الطريق أمام مفاوضات العرب بما فيهم الفلسطينيين وبين "إسرائيل" امتدت أكثر من عامين في واشنطن دون القدرة على إحداث اختراق إلى أن ولد اتفاق أوسلو الذي عبّد طريق التسوية التي لا نزال نطوف في حلقتها المفرغة.

لقد ولدت اتفاقيات أوسلو في ولاية "كلينتون" الأولى ووزير خارجيته "وارن كريستوفر" وجاءت منسجمة تماماً مع منهج التسوية على الطريقة الأمريكية الذي افتتحته في اتفاقيات كامب ديفيد، حيث سارعت هذه الإدارة إلى التقاط هذه الاتفاقية وإدارتها وتجييش الدعم الإقليمي والدولي لها ورعايتها، ولم تلبث أن وقعّت الأردن اتفاقية سلام مع " إسرائيل"، وسرعان ما بدأت تنشأ خلافات بين أطراف التسوية، أو معارضة داخلية للتسوية حتى في داخل ما يُسمى المجتمع الصهيوني.

وفي " اسرائيل" جاء " نتنياهو" إلى سدة الحكم في أعقاب اغتيال " إسحاق رابين" وهو لا يعكس ميل الشارع الصهيوني نحو اليمين فحسب وإنما أيضاً عدم وجود فوارق بين اليمين وما يُسمى اليسار الإسرائيلي حول التسوية، وتزامنت حكومة " نتنياهو" مع ولاية "كلينتون" الثانية ووزيرة خارجيته " مادلين اولبرايت" حيث أحجمت هذه الإدارة عن ممارسة الضغوط على حكومة "نتنياهو" أثناء انتفاضة النفق ومصادرة جبل أبو غنيم في القدس وإقامة مستوطنة "هارحوما " سنة 1997 وتبنت الموقف الإسرائيلي.

ولم يتمخض خلال هذه الفترة سوى اتفاقية "واي ريفر" التي جاءت التفافاً على كافة الاتفاقيات الموقعة في أوسلو والقاهرة، ولم يلبث " نتنياهو" أن انقلب على هذه الاتفاقية الجديدة قبل أن يجف حبرها، ولم تحرك الإدارة الأمريكية ساكناً إلى أن جاء " باراك" الذي اتضح أنه لا يختلف عن " نتنياهو" وأراد هو الآخر أن يبدأ من جديد. مرة أخرى لم تتحرك الإدارة الأمريكية وعادت للضغط على الفلسطينيين والعرب للقبول بتصورات وأفكار هدفها القفز عن تطبيق الاتفاقيات المرحلية ودمج المرحلي بالاتفاق النهائي، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى اضطرار الطرف الفلسطيني الذهاب إلى مفاوضات "كامب ديفيد الثانية" حيث وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، مما مهد الطريق إلى اندلاع الانتفاضة الثانية.

 وعلينا ألا ننسى أن " إسرائيل" استفادت من التسوية حيث كثفت من نهبها للأراضي الفلسطينية حيث زادت نسبة الاستيطان منذ العام 1993 وحتى عام 2000 بنسبة 105% ، وارتفعت أعداد المستوطنين في الضفة من دون القدس بنسبة 100%  من 115 ألف إلى 230 ألف مستوطن، وهو ما يعكس التواطؤ الأمريكي مع المخطط الصهيوني للاستيطان والتسوية.

واندلعت الانتفاضة الثانية عام 2000 تزامناً مع ولاية "جورج بوش الابن" ووزير خارجيته " كولن بأول" وانتخاب " شارون" رئيساً للحكومة، وتبنت الإدارة الامريكية موقفه ولم تمارس ضغطها على " إسرائيل" ولجم عدوانيتها، بل راحت تشجعه على التصعيد والإرهاب، واشتدت حينها حدة الهستيريا الأمريكية في تبني سياسات "إسرائيل" العدوانية في أعقاب ضربات 11 سبتمبر، والتي منحت " شارون" الضوء الأخضر لإعادة احتلال مناطق السلطة وارتكاب المجازر، وحتى المبادرة العربية مع كل عيوبها تلقفتها الإدارة الأمريكية ببرود وتبنت مواقف "إسرائيل منها".

 أما خطة خارطة الطريق التي اقترحتها الولايات المتحدة فقد كانت رؤية الرئيس "بوش" للحل التي انطلقت منتصف العام 2002 حيث كانت من المفترض أن تمهد الطريق أمام إقامة دولة فلسطينية مع نهاية عام 2005 وسجلت " إسرائيل" 14 تحفظاً على هذه الخطة التي تشكّل عملياً افراغاً لها من محتواها، وتبنت الولايات المتحدة هذه التحفظات، وعملياً لم تكن هذه الخطة سوى استرضاء للعرب وثمن لسكوتهم في التحضير لاحتلال العراق.

لقد أحدث احتلال العراق زلزالاً سياسياً لا تزال المنطقة تعاني من ارتداداته، وخرجت علينا تنظيرات "كوندليزا رايس" وزيرة خارجية "بوش" في ولايته الثانية من (شرق أوسط جديد) إلى (الفوضى الخلاقة) ولم نشهد في هذه الولاية أي حماسة من جانب الولايات المتحدة لتطبيق ما تعهدت به من خطة خارطة الطريق، وخرجت علينا خطة " شارون" لإقامة دولة فلسطينية مؤقتة على مساحة 42% من مساحة الضفة، وهي عملياً أقسى ما يمكن للكيان الصهيوني تقديمه للحل النهائي، أما الانسحاب من غزة وقد تبنته الإدارة الامريكية على أساس أنه جزء من خطة خارطة الطريق.

 وفي أعقاب الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 وما أحرزته من نتائج، تبنت الولايات المتحدة موقف " إسرائيل" وشروطها للتعاطي مع نتائج هذه الانتخابات، وساهمت في حصار وتجويع الشعب الفلسطيني ومارست ضغوطها على الفلسطينيين التي أسهمت في الاقتتال الداخلي والانقسام السياسي الذي لا يزال قائماً.

وفي هذه الأجواء انتهزت الولايات المتحدة الفرصة لفرض التسوية على الفلسطينيين في ظل حالة الضعف والانقسام ودعت لمفاوضات مكثفة بين الطرفين في "أنابوليس" أواخر 2007، والتي انتهت بعد عام بالحرب العدوانية على غزة ( 2008-2009)،  وتزامنت هذه الحرب مع ولاية "أوباما" الأولى ووزيرة خارجيته "هيلاري كلينتون" حيث انشغلت الإدارة الامريكية بمعالجة الأزمة الاقتصادية التي ورثتها عن إدارة "بوش" الثانية، ولم يطل الوقت حتى فاز " بنيامين نتنياهو" بالانتخابات وعادت التسوية تستنسخ ذاتها من جديد.

لم تتمكن إدارة "أوباما" وبكل ما حملته من "آمال وسلام" كاذبة بالمنطقة من لجم مشاريع الاستيطان والتي تسارعت في عهد حكومة "نتنياهو".

 وانتهت الولاية الأولى لـ" أوباما" وبدأت الولاية الثانية بحرب افتتحتها " إسرائيل" على غزة في نوفمبر عام 2012 وفي هذه الولاية الجديدة لـ"أوباما" ووزير خارجيته "جون كيري" جرى اختراع كل أنواع المفاوضات التجريبية من (المفاوضات الاستكشافية) إلى (المفاوضات غير المباشرة) إلى (المفاوضات شبه المباشرة) والتي بعد فشلها شنت "إسرائيل" حربها المدمرة الوحشية على غزة عام 2014 .

وفي النهاية يُسدل الستار ببطء وبصمت على كافة الآمال السلمية التي بثها "أوباما" طوال ثمان سنوات لتتسلم الراية إدارة جديدة برعاية الرئيس الأمريكي الجديد المثير للجدل " دونالد ترامب" الذي خرج إلينا بخطته المعروفة بصفة القرن، والتي لم يعرض أحد بعد مضمونها وخطوطها العريضة.

ومن هنا نتساءل ما الجديد لدى هذه الإدارة الأمريكية الجديدة التي يرأسها شخصياً " دونالد ترامب"؟ وما الذي تغير حتى يتفاءل البعض ويبدأ بالترحيب بها قبل اتضاح معالمها؟، وإذا كانت أية مفاوضات محكومة بموازين القوى ما الذي تغير على صعيدنا الفلسطيني أو العربي لمواجهة هذه الخطة؟.

وهذا وقد بدأت ترشح في وسائل الاعلام الصهيونية بعضاً من ملامح هذه الخطة ولا يبدو على "إسرائيل" القلق أو الانزعاج من الإعلان عنها فكلنا يعلم أن هذه الخطة عُرضت على " إسرائيل" قبل الإعلان عنها، بل من المؤكد أنها هي من ساهم في وضعها؛ فهذه الخطة لا تتحدث عن أكثر من حكم ذاتي موسع على أقل من نصف مساحة الضفة بدون القدس، وبدون عودة اللاجئين ومع ضم كامل للكتل الاستيطانية، وهو ما يعيدنا إلى المربع الأول هو الحكم الذاتي الذي عُرض في "كامب ديفيد الأولى" ولكن بنسخة ومسميات مختلفة.

 وبعد 40 عاماً من مسلسل التسوية تأتي هذه الخطة في إطار الفوضى السائدة في المنطقة، وعلينا أن ننتبه إلى أنها تحمل في طياتها مخاطر كبيرة، وهو ما يذكرنا بخطة خارطة الطريق التي كانت بمثابة الطعم للعرب والفلسطينيين وثمناً لسكوتهم لاحتلال العراق وغطاءً للنوايا الأمريكية لعدوان جديد على المنطقة، وما الذي يطبخ في البيت الأبيض؟ وما هي الحرب المرتقبة في المنطقة؟. قد تكون إيران هي المستهدفة هذه المرة، وربما سوريا أو حزب الله.

 بكل الأحوال ومهما بلغت التقديرات فإن هذه الخطة الجديدة ما هي إلا إعادة إنتاج لحلقة جديدة من مسلسل التسوية التي باتت حلقاته متكررة، بتغيير الشكل بينما يبقى المضمون، ولن تلبث هذه الخطة على أن يختفي بريقها وتذهب إلى مقبرة المبادرات إلى جانب أخواتها ولكن ليس قبل أن تجري دماء في أنهار المنطقة.

( انتهى)

 كميل أبو حنيش (*)
* أحد أبرز قيادات الحركة الوطنية الاسيرة، مسئول فرع الجبهة الشعبية في سجون الاحتلال.

 

مركز حنظلة للأسرى والمحررين