بات التفكير في وضع منهجيات جديدة في التعامل مع الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة أمراً تقتضيه حتمية المرحلة، وذلك مع تغير المعطيات، والمستجدات السياسية التي تؤثر بشكل مباشر على الأوضاع الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في القطاع المحاصر منذ أكثر من 10 سنوات.
ولم يعد المضي في سياسة "انتظار ما قد يأتي" أمراً معقولاً ومنطقياً في ظل تفاقم الوضع المعيشي في غزة ووصوله لحدود الفاقة لدى غالبية سكان القطاع، حيث يوقع الفقر المدقع في براثنه يومياً المزيد من أبناء القطاع الذين كانوا في ما مضى يقفون على حافته.
فعلى الرغم من أن الإحصائيات تشير إلى معطيات تعبر عن فداحة الأوضاع في القطاع، كنسبة العائلات التي تعتاش على المساعدات الإغاثية، والتي وصلت إلى أكثر من 80%، ونسبة البطالة التي تقدر بـ 47%، وبنسب فقر تصل إلى 65% (بحسب أخر الإحصاءات الصادرة عن المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، العام الماضي)، إلا أن الأرقام بمجملها تبقى "صمّاء" لا تعبر عن عمق المأساة ذات الأوجه والانعكاسات المختلفة على المجتمع الغزي.
فالآهات التي يطلقها رب أسرة أعيته الحيلة في إعالة أسرته، وأنين المريض الذي تقطعت به سبل التداوي، وصرخات الاستنجاد التي يطلقها الأيتام والثكالى والعاطلين عن العمل، لا يمكن أن يسمعها سوى من يطرق السمع لنبضات مجتمع يقف على حافة فقدان الأمل تجاه كل شيء، حتى في فجر يشرق يحمل معه شيئاً من البشرى لقسط قليل من الحياة.
ولا يمكن لأي كان أن يحس بآلام المجتمع الغزي دون أن يعايش معاناة أبنائه، ويطّلع على أوضاع أسره، ويعود مرضاه، ويسير في شوارع القطاع المتهالكة بفعل الحصار والحروب والاعتداءات الإسرائيلية العسكرية المتكررة، ويستمع لشكوى المواطنين الذين لا يعجزك أن تقرأ في وجوههم حجم المعاناة وما تركته على محياهم من يأس وبؤس لا يخفيه سوى روح الصمود والإصرار على مواجهة طغيان الاحتلال وجبروته الذي فاق كل حدود.
كنا نلمس هذه المعاناة وتلك الروح في كل مرة كنا نزور فيها غزة، بمرافقة القوافل التضامنية، مع اختلاف الظروف حينها، كما أن المرحلة كانت وقتها مختلفة، على الرغم من أن الحصار هو عينه الحصار، والعدوان هو العدوان، والاحتلال نفسه جاثم على صدور الفلسطينيين ويسد على الغزيين المنافذ، ويزيد من تربصه بهم، فلو شاء لمنع عنهم الهواء.
على الرغم من سنوات طويلة من الأخذ والجذب، ومحاولات التقاط أوراق اللعب السياسي هنا وهناك، من أجل استقطاب الداعمين لغزة، والمنافحين عن حرية أبنائها، والرافضين للحصار الجائر، بهدف الوصول لغايات كسره وإنهاء الظلم الواقع على الغزيين، إلا أن المياه جرت في اتجاهات أخرى، رسمت معها ملامح معادلات سياسية ليست في صالح الغزيين والقضية الفلسطينية برمتها.
فالحصار اليوم يشهد تشديداً لم يسبق له مثيل، كما أن الطريق أصبح مسدوداً أمام القوافل الإغاثية التي كانت تزور القطاع منذ أكثر من 4 سنوات، حيث باتت تتضح معالم السياسة الجديدة للاعبين دوليين وإقليميين رئيسيين في دعم دولة الاحتلال لتجويع غزة وخنقها، كي تذعن وترمي براية الكرامة والعزة أرضاً، وصولاً لإعلان استسلام الشعب الفلسطيني بشكل رسمي وقبوله بتصفية قضيته، والتنازل عن ثوابته وحقوقه المشروعة.
ما هو مطلوب من غزة وأهلها يفوق حدود طاقة مليوني إنسان محاصرين في بقعة صغيرة من الأرض، بكثافة سكانية هي الأعلى عالمياً، دون بنية تحتية حقيقية، ودون اقتصاد حقيقي قائم بذاته، يضاف إلى ذلك تحول القطاع إلى سجن يُمنع على ساكنيه الخروج والدخول، والتزود بما يلزم من احتياجات إنسانية أساسية.
واحتياجات غزة اليوم ليست كاحتياجات الأمس، فمع إغلاق كافة معابرها إلى جانب معبر رفح مع الجانب المصري بشكل متواصل، والازدياد الطبيعي المطرد لسكان القطاع، إضافة لاستمرار توقف إعادة إعمار القطاع، وبقاء أوضاع المئات من الأسر على حالها في مراكز إيواء مؤقتة بسبب الحروب الإسرائيلية المتكررة، ناهيك عن ازدياد حجم الفقر والبطالة والعائلات التي تعتمد على المساعدات الإغاثية، إلى جانب آلاف الموظفين المحرومين من تقاضي رواتبهم، وتهديد الحصار المستمر لعمل قطاعات حيوية على رأسها القطاعين الصحي والتعليمي، والافتقار إلى الكهرباء، واتساع معاناة شرائح واسعة من الغزيين وعدم تمكنهم من كسب قوت يومهم، كالصيادين والمزارعين -على سبيل المثال-، كل ذلك أدى إلى مضاعفة احتياجات القطاع الذي يتطلب تلبية تضافر جهود أفراد ومؤسسات بالتوازي مع العمل الجاد من جانب حكومة الوفاق الفلسطينية مع المجتمع الدولي للمبادرة بتقديم الدعم العاجل للغزيين قبل فوات الأوان، واعتبار ذلك من أولويات المرحلة.
كما أن هنالك متطلبات اجتماعية في الداخل الغزي تفرضها الظروف الآنية، تكمن في استغلال ما يتوفر من مساعدات على ضآلتها لدى المؤسسات الأهلية والخيرية بالشكل الأمثل، وبحسب الأولويات القصوى، فتقديم إعانة الأسر المحتاجة، وتنفيذ المشاريع الخيرية الأكثر إلحاحاً على بناء المباني الإدارية والمساجد يعد حاجة تقتضيها المرحلة، فضلاً عن التنبه لسبل إنفاق أموال التبرعات والمواد الإغاثية والإنسانية، من ناحية وصولها إلى الأسر الأشد فقراً، مع التأكيد دوماً على وضع أية اعتبارات سياسية أو دينية أو مذهبية أو عرقية، وغيرها، جانباً عند ممارسة العمل الخيري، حيث يعتبر ذلك من أولى مبادئ وأبجديات العمل الخيري والإنساني.
يضاف إلى ذلك الحاجة إلى تعزيز معاني وروح التكافل الاجتماعي لدى الأهالي، على الرغم من صعوبة الظروف المعيشية لدى الجميع، فالحصار يطبّق مبدأ المساواة في تعميم ظلمه وجوره على كافة أبناء المجتمع، دون التمييز بينهم، إلا أن اقتسام رغيف الخبز يعد ضرورة من ضرورات التكاتف والتضامن المجتمعي بين سكان الأحياء والقرى، ولنا في رسولنا الكريم (صلى الله عليه وسلم) الأسوة الحسنة في ذلك، بعدما قام بتشريع نظام المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، عقب هجرته إلى المدينة المنورة، ليتشارك المهاجرون مع إخوتهم الأنصار في السكن والمأوى والطعام، بغرض مساعدتهم بعدما قام المهاجرون بترك أموالهم وممتلكاتهم في مكة، حيث أراد -عليه الصلاة والسلام- من تشريعه هذا إلغاء الفوارق المجتمعية، عبر إقامة نظام مجتمعي جديد يستند على أسس وروابط جديدة أساسها التآخي بين الناس.
بقلم/ د. عصام يوسف