أيّ مجلس “وطني” فلسطيني هذا الذي تعّد وتستعُد له طبقة أوسلو في رام الله المحتلة نهاية الشهر الجاري؟
الجواب: إنه مجلس اللون الواحد والفرد الواحد والصوت الواحد. إنه خليطٌ رَخو وهجين يستنقع فيه أصحاب الرساميل وجمع من مخاتير “المناطق” وأجهزة التنسيق الأمني مع العدّو الصهيوني، فهذا مجلس البطالة الفلسطينية المُقنعّة، الأقلية جدًا جدًا، التي تعيش على حساب الشعب كله وقد جاء على مقاس طبقة أوسلو وزواحف المرحلة، باختصار: هذه حاوية للفساد السياسي والأخلاقي والمالي والادراي.
كان انعقاد دورة عادية أو طارئة للمجلس الوطني الفلسطيني، في زمن مضى، حدثاً وطنيًا وقوميًا وأمميًا بامتياز. كانت عيون الشعب الفلسطيني في عموم الوطن والشتات تذهب إليه وتتابعه وكانت دول وحكومات وأحزاب كبرى تنتظر قرارات المجلس الوطني الفلسطيني وماذا سيقول الفلسطينيون؟ فالرقابة الشعّبية العربيّة حاضرة، ولو من بعيد، والشخصيات الموثقة والوازنة المحترمة موجودة أيضاً، والإتحادات الشعبية والنقابية الفاعلة على الأرض وفي الميدان تشيع حالة من التوافق الوطني الدّاخلي وتدفع الى الوحدة والتلاقي.
وإذا حضر جورج حبش، وبهجت أبو غربية، وشفيق الحوت، وادوارد سعيد، ومحمود درويش، وأبو جهاد، وذاك المطران الفدائي العجوز (1) ومئات من القيادات الوطنية، اطمئن قلب الشعب الفلسطيني على قضيته وحقوقه أكثر، فالشعب يعرف حقيقته ووجوده وفي أنه متعدد ومختلف لا يأتي نسخة كربونية واحدة، أو فكر واحد، يدرك جوهر و معنى وفاعلية الوحدة الوطنية حين تتحقق في الميدان ، وليس على الورق، لأنه ببساطة أوعى من قيادته وأحرص على قضيته الوطنية وعلى حقوقه وثورته.
طيب، وإذا شذّ المجلس عن القاعدة والبوصلة الوطنية وذهب إلى عمان مثلاً، برعاية ملكية ورجعية؟
ثارت ريشة ناجي العلي وصبّت حممها وغضبها على جماعة 242 وأعلن حنظلة عدم شرعية المجلس قبل أن يبدأ أعماله. سيقول الشاعر البكري في القدس المحتلة من قلب البلدة القديمة “هذا المجلس مش مجلسنا يا ولاد”، وتعلن الحركة النقابية العمالية والطلابية المناضلة في جامعات فلسطين المحتلة والشتات رفضها للمجلس وقراراته، قبل أن يبدأ، وستنشئ حالة وطنية وقومية تعبر عن يقظة شعبية حاضرة باستمرار. وكانت القوى الشعبية تختلف نعم ولكن لا تنقسم .
ويعرف الشعب الفلسطيني بوصلته وطريقه جيداً، يعرفها أكثر من “طليعته ” التي أصابها الهرم، وهو الذي سيحدد، في نهاية الأمر طريقه السليم إلى مجلس وطني فلسطيني توحيدي وشعبي ومقاوم. وسيقول لنا بعد أيام قليلة إن كان مجلس رام الله المنعقد برعاية الحاج أبو مازن في مضافته المزمع جمعها نهاية الشهر الجاري، سيقول لنا إن كان مجلسًا وطنيًا حقيقيًا أم ملهى لشريحة مهزومة تعيش على حساب الطبقات الشعبية المفقرة، وعلى حساب اثنين وستين مخيماً فلسطينياً وقضية عادلة وكبرى متروكة في مهب الريح عرضة للتصفية والتبديد.
الشعب الفلسطيني هو الذي سيقرر أيضاً أي وحدة وطنية يريد، ومن هي المؤسسات الوطنية الشرعية التي تمثل إرادته الشعبية حقاً تكون صوته الحقيقي، كما هو ، في الواقع الحيّ، وهو يستعد في ذكرى النكبة يوم 14 و15 أيار القادم مرّة أخرى للحراك والخروج إلى الميادين ليؤكد على موقفه من هذا الكيان الصهيوني، وعلى اصطفافه خلف حقوقه الوطنية. وبرغم كل الصعاب والعقبات والحصار وكل الشروط المجافية يستعيد أهلنا في غزة المبادرة الشعبية على الأرض، وكالعادة، تسبق الجماهير كل الفصائل والقبائل، ومن لا يرى هذه البطولة الفلسطينية في غزة سوف لن يرى أي شيء وسيواصل طريق الوهم …يستعمي ويستغبي.
وأي مجلس وطني فلسطيني تغيب عنه كل قوى المقاومة الفلسطينية بلا استثناء؟ من سيصدق أصلاً أنه حفل يمثل إرادة وصوت الشعب الفلسطيني وهو ينعقد أصلا بضمانة وتصريح من الاحتلال؟ هل سترتفع على جدرانه صور غسان كنفاني وناجي العلي ودلال المغربي وباسل الأعرج وأحمد جرار؟ هل سيعقد تحت رعاية شعبية فلسطينية بحماية سلاح الفدائيين؟ هل ستكون الحركة الأسيرة مقررة في مساراته وقراراته؟ هل ستمثل فيه نضالات المرأة الفلسطينية المناضلة وتكون في موقعها الطبيعي المركزي في الحركة الوطنية ؟ هل يمكن لهذا المجلس في رام الله أن يجدد المؤسسات الفلسطينية دون مشاركة الشباب وجيل فلسطيني جديد؟ عن أي مجلس يتحدث عزام الأحمد وهو يرفع سبابته ويقول “شاء من شاء وأبى من أبى” تلك مقولة كانت توجه للعدو الصهيوني من بيروت وعلى شكل تحدٍ وليست مقولة فارغة يجري رميها الان في وجه الشعب وقوى المقاومة وفي استعراض سخيف لعضلات يعرف الأحمد انها عضلات من ورق وقش!
المطلوب اليوم من كافة قوى المقاومة الفلسطينية وقواعدها الشعبية وأنصارها وكوادرها أن تشرع في التلاقي والوحدة وبناء جبهة وطنية موحدة عنوانها مجابهة مشروع التصفية وإسقاط صفقة القرن وتؤسس لمرحلة نضالية جديدة تنظم وتوحد طاقاتها على طريق العودة والقدس والتحرير. فكل يوم يمضي يمتحن الشعب الفلسطيني فيه إرادة هذه القوى ومصداقيتها، وإذا كفر الناس في قوى السلطة وطبقة أوسلو لا تجعلوه يكفر في قوى المقاومة الفلسطينية أيضاً، والتذرع بغياب البديل الوطني وهو يطالبها اليوم في أن تشق طريقها من جديد وتقطع مع مرحلة أوسلو وملحقاته وتُسقط سلطته الوهمية المسمومة؟ إن حماية منظمة التحرير الفلسطينية يكون بتحرير المنظمة أولاً وإسقاط مشروع قيادة تختطف المؤسسات الفلسطينية وصار من الواجب الوطني كسر احتكارها للقرار السياسي وليس الرضوخ لها خصصوا انها جهة فقدت كل شرعية وطنية واصبحت في موقع الخصم السياسي.
المطلوب اليوم فتح المجال واسعاً أمام المشاركة الشعبية الفلسطينية وخاصة الجيل الشاب الموزع على الكل الوطني، فالوحدة الوطنية ليست قراراً فوقياً يصنعه 20 رجلاً في اجتماع برعاية عربية رسمية بل حالة يومية من حراك شعبي موحد على الأرض في مواجهة الكيان الصهيوني وحلفائه وأدواته. لماذا هذا الاستعلاء على درس الجماهير في القطاع المحاصر؟
وأخيراً، نرجو أن ينتبه بعض المثقفين لدورهم ويقلعوا عن ممارسة دور النعامة التي تغرس رأسها في الرمل وترك حالة الصمت والتواطؤ والغرق في التحليل المجاني والتسويق الذاتي، فالمطلوب اليوم هو استعادة نهج غسان كنفاني وناجي العلي اذا اراد المثقف ان يعبر بصدق عن الآلام وضمير شعبه/ ها، دور المثقف هو تنوير البشر والعقول وتعزيز صمود الناس وليس تبرير مواقف سلطوي ردئ لا يرى إلا نفسه، ديكتاتور على شعبه ومهزوم أمام العدو.
**
هوامش:
(1) المطران الفدائي هو هيلاريون كابوتشي 2 مارس 1922 – 1 يناير 2017، ولد في حلب وأصبح مطراناً لكنيسة الروم الكاثوليك في القدس عام 1965 عُرف بمواقفه الوطنية وعمل سراً على دعم المقاومة. اعتقلته سلطات الاحتلال في آب 1974 أثناء محاولته تهريب أسلحة للمقاومة، وحكمت عليه محكمة عسكرية بالسجن 12 عاماً. أفرج عنه بعد 4 سنوات بوساطة من الفاتيكان، وأبعد عن فلسطين في تشرين الثاني 1978، وقد أمضى حياته بعد ذلك في المنفى في روما حتى وفاته
خالد بركات