تحية حيادية ضرورية
لا بد لي من أكتب متأنقا في اختيار الكلمات، وإن كان الأسلوب كما هو في العادة متواضعا، أرجو أن يكون لطيفا كحال أسلوب كتّاب الرسائل عادة الذين يكتبون هكذا دون التفات حتى لأخطائهم النحوية والإملائية والتركيبية، أحمد الله أنني أتقن نوعا ما الكتابة في مرات كثيرة، لتكون أخطائي أقل من غيري.
يتبادر إلى ذهني كثير من الأفكار، أفكار ليست مزعجة هذه المرة، متجاوزا عن قصد الوقوع في الشرك العاطفي الذي وقعت فيه مرات كثيرة، ومنها في الرسالة السابقة، سأحاول أن أنسى ما صنعت بي كلمة "جميل"، وردك على الرسالة بعد أكثر من ثمان وأربعين ساعة طويلة، وأقفز عن ذلك إلى ما هو أرحب من ردك الاستعاري الذي لم أفهمه: "إنك لن تستطيع معي صبرا"، كم كانت جملة مستفزة، لكنني استوعبتها وخبأتها في ذاكرتي أياما حتى تنضج فتتساقط كلماتها حرفا حرفا، ويتلاشى مفعولها. أتدرين لماذا هي جملة استعارية بائسة جدا؟ ليس لأنك نقلتها من المطلق الديني إلى حضن العاطفة الميت فقط، بل لأنك لست الخضر ذلك العبد الصالح الملهم، ولست أنا بالتأكيد النبي موسى عليه السلام، ولأنه أيضا ليس بيننا اتفاق معلن أو مخفي برعاية الله، ليختبر أحدنا صاحبه. لكل ذلك تبدو الاستعارة بائسة كأقصى ما يكون البؤس. هل أنا أهجو أسلوبك الفظ؟ أبدا، ولكنني أوضح فقط عدم قدرة الشاهد اختصار الحالة التي كتبتِ عليها الرسالة السابقة.
إن نفيي التشابه بيننا نحن الأربعة، لاحظي أيضا هناك أربعة، لماذا نحن محكومون دائما بفكرة الكائنات البشرية الأربعة، لا أدري. المهم. إن نفيي التشابه أعلاه عني وعنك، لا يعني أننا لسنا صالحين. بالطبع إن فينا خيرا كثيرا، وهذا ليس من المدح الذاتي الزائف، وليس تراجعا عما تعتقدين أنه هجاء، بل إنه الحقيقة؛ فكل نفس بشرية فيها من الخير الكثير لو أرادت أن ترى ذلك الخير، وفيها من الشر أكثر كذلك لو أطلقت له العنان، سيكون بركانا أو عاصفة أو إعصارا مدمرا، إن لم يدمر ما حوله فإنه بالتأكيد سيدمر نقطة انطلاقه، الذات التي انبثق منها، أخذا بنظرية "الشر العاجز" الذي يأكل بعضه؛ لأنه لا سبيل إلى تجاوز ذاته إلا بإفناء ذاته.
لا عليكِ، ربما لم تدركي ماذا أردت من ذلك، وربما أنا أيضا لم أدرك ماذا أريد أن أقول. هي تدفقات من اللاوعي، شعورا بحاجتي الماسة لصنع الهذيان بطريقة غامضة.
هل أكتب لك عن الشر الذي فيّ؟ أم عن الشر الذي في هذا العالم؟ أم أكتب عن الشر الخارجي المتربص بنا جميعا؟ أراه واقفا هنا أو مقعيا على ذيله مثل كلب. يا إلهي كم مرة وظفت استعارة الكلب فيما أكتبه. فهل الشر كلب؟ هل أنا كلب؟ هل هذا العالم الممجوج كلب؟ هل هذا القلب الذي أحمله بين ضلوعي كلب؟ لاحظي لا فرق بين الكلب والقلب إلا قليلا، يا لمحاسن الصدف، إنها استعارة موفقة على ما يبدو. لا بأس، ربما لن ترقى إلى أسلوب صديقك الكاتب الذي صفعتني به ذات مرة بأنه "وحش سرد". يكفيني أن أكون كلب سرد، إنه أنفع لي، "فعلى قد ألفاظ امدد سردك". على كل حال، إنه وحده هو الكلب، قلبي، وليس صديقك طبعا، يعوي دائما في أحشائي، ينبه كل الكلمات الساكتة كشيطان أبكم أعمى، لتهرب مني إليّ، وتتحوصل على رأس القلم. هل تصدقين أنني كتبت هذه الرسالة أولا بخط اليد. أريد أن أكون سريعا مواكباً سرعة نباحها الصباحي عليّ، هذه الكلبة بنت قلبي الكلب!
لا عليك مرة ثانية، ستقرئين صورة لنباح الكلب القلب هنا، وربما ستشعرين بإيقاع الجُمَل الراكض على السطور يسابق حركة يدي المرتعشة. لا أدري إلى الآن لماذا ترتعش أيدي الكُتّاب وهم يكتبون رسائلهم العاطفية بانفعال ظاهر. هل لديك تفسير يشبه تفسيرا صالحا للاستشهاد بهذه الحالة، بعيدا عن رحلة البحر التي صحبتك على متن حكاية موسى والخضر، وأقحمتني فيها بغير أدنى مبرر؟
أحاول أن أضغط على أصابع يدي لعلها تهدأ قليلا، كيف لي أن أضغط على أصابعي؟ وبأي وسيلة أضغط عليها؟ ليس لي يد أخرى لتضغط أخت على أخت، أو لتحنو شقيقة على شقيقتها، فإحدى الأختين ميتة كما تعلمين. يا لتعاسة هذه التشبيهات هنا. إنها تثير الاشمئزاز حقا. أحتاج إلى كلاب إضافية لتنبحني وتنبهني وتزيد من سرعة جريان الكلمات. أشعر أنها تلتهم السطور واحدا تلو الآخر، ودون توقف، حال الخائف الذي بلغ قلبه/ كلبه الحنجرة وهو يلهث يسابق الريح، ويكاد يسبق نفسه، متجاوزا قطارا حديثا مهرولا نحو الهاوية وبسرعة جنونية.
لا عليك مرة ثالثة، لا تصدقيني كثيرا أو قليلا، فثلاثة لا يحسن بالمرء أن يصدقهم: المجنون والشاعر والعاشق، فأنا أكذب أكثر عندما أكتب، وأكذب أكثر وأكثر وأنا أتطلع من شباك نافذتي وأرى صورتك على الشباك، وأتمادى في الكذب وأنا أستمع لهذيان قلبي الكلب، وأبلغ شأوي في الكذب عندما أعلن أن عليّ أن أصمت وأتلاشى وأذوب في هذا العالم المتعجرف.
ليس عليك إخباري بما هو كائن حيال هذا الرقص الصباحي المجنون نحو هذه الكلمات المفخخة بالغموض ونباح الكلاب، متجاوزا زقزقة العصافير، لا أكاد أسمعها، شيء يمنع دخولها إلى مسمعي، ليست العتمة التي أخذت بالتفتق والوضوح إلى حد فضيحة النهار العارية، بل بسبب شيء أعظم من ذلك، إنه التباس العوالم وضجيجها وضجرها واستسلامها للسأم.
ليس عليك حرج بالتأكيد، إن قرأت هذه الرسالة ولم تدركي ماذا أردت أن أقول، فهي غامضة محجبة بأغلفة الدخان الكثيف، ضباب الضجيج الذي يعبئ رأسي، ويمنعني من اختيار المجاز المناسب والاستعارة المثلى.
لا عليك مرة أخيرة، إن عرفت أن الكلمات خادعة، خائنة، وربما خانعة، خاسرة، خائبة، وبغض النظر عن خاءاتي المتكاثرة ربما سيكون لها بعض نفع، فرب نافعة ضارة.
مضطر هنا لأقفل السطر وقد طبعت الرسالة، وغلبتني الشمس واستعجلت الخروج قبل إتمام المهمة، وانقطع تماما صوت العصافير، لعلها غادرت أعشاشها بحثا عن رزقها وما قدر لها، غير حاملة وزر رسائلي ولا حملها، فهي لم تسمعني كما سمعتني في مرة سابقة، رمت قاذوراتها على رأسي وذهبت تبحث عما يفيدها. فهل سيأتي يوم وأكون عصفورا مثلها؟ لست أدري، لعل جوابا سيكون لديكِ.
دمت ودامت الاستعارات غير الموفقة المحفزة على الكتابة. يومك كما تتمنين أن يكون. سلام
الواقع في أسر لغتك فراس حج محمد
الجمعة: 1/6/2018