من المفترض أن يكون وفد حركة فتح قد سَلَّمَ مصر رد الحركة على الورقة المصرية التي أعلنت حركة حماس موافقتها عليها.
تحمل الورقةُ تغيّرًا في زاوية الرؤية المصرية، ولكنه ليس كافيًا، إذ تركز على الحكومة ورواتب الموظفين، رغم أنها تضمنت خلافًا للاتفاق السابق قضايا عدة تنفذ على أربعة مراحل، من المفترض تنفيذها وفق جدول زمني قصير (100 يوم كحد أقصى)، مثل: رفع الإجراءات المتخذة من السلطة على قطاع غزة، وتمكين الحكومة الحالية، وتسديد رواتب الموظفين المدنيين وجزء من رواتب الأمنيين، وصولًا إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية خلال خمسة أسابيعـ وتفعيل عمل "لجنة تفعيل المنظمة" التي ستبحث مواضيع المجلسين الوطني والتشريعي والانتخابات.
من المتوقع - شبه المؤكد - أن يكون الرد سلبيًا، وخصوصًا بعد تصريح الرئيس محمود عباس في افتتاح اجتماع اللجنة التنفيذية الذي أبدى فيه تمسكه باتفاق القاهرة 2017، الذي يقوم على تمكين الحكومة أولًا، وإن جاء مغلفًا بإطار إيجابي. وهذا الأمر قد يؤدي إلى أزمة في العلاقات المصرية الفلسطينية، أو إجراء تعديلات على الورقة لتصبح مقبولة من الطرفين، أو فتح حوار وطني أوسع لعل ذلك يساعد على الاتفاق، أو المضي في "الحل الإنساني" لقطاع غزة من دون مصالحة ولا إشراك السلطة، التي يوجد حرص على إشراكها ولو بشكل شكلي، ولكن ما العمل إذا لم توافق على ذلك؟
ما طرح تحريك ملف المصالحة إلحاحية الوضع الإنساني وتعدد الأطراف المنخرطة فيه خشية من أن يؤدي إلى انهيار القطاع وانفجاره، وما دفع مصر إلى تحريك الملف أنها لا تريد رمي قطاع غزة بعيدًا عنها ولا في حضنها، وتريد إبقاء الأفق مفتوحًا أمام إقامة الدولة الفلسطينية.
أما الرئيس فيخشى من أن تكون المصالحة مدخلًا لتطبيق الحل الإنساني لقطاع غزة، كقاطرة لتمرير "صفقة ترامب". وهذا الحل ليس "إنسانيًا" كما يبدو للوهلة الأولى، وإنما جزء من الحل السياسي الجاري العمل على تمريره، سواء بموافقة السلطة، أو بجعله حقائق على الأرض لا يمكن، أو من الصعوبة، تجاوزه.
أي إما أن تكون السلطة الموحدة جزءًا من الحل الذي مركزه قطاع غزة، وهذا يسهل عملية ابتلاع الضفة الغربية الجارية على قدم وساق، أو يتم من دونها، وهذا يعمق الفصل بين الضفة والقطاع، ويهدد بتحويل الانقسام المؤقت إلى انفصال دائم، تمهيدًا لإقامة الكيان الفلسطيني في القطاع، على أن ترتبط المعازل المأهولة بالسكان والمنفصلة عمليًا عن بعضها البعض في الضفة أو لا ترتبط بهذا الكيان الذي يمكن أن يسمى "دولة"، ولن يكون فعليًا كذلك، لأن إقامة دولة فلسطينية حقيقية مرفوض إسرائيليًا وأميركيًا، كما أن من المصلحة الفلسطينية عدم قيام دولة في غزة للتغطية على ابتلاع الضفة، ولا دولة في الضفة من دونها، وهي لم تعد مطروحة حتى من قبيل ذَر الرماد في العيون.
إذا أردنا توضيح موقف "فتح" أكثر، علينا تفسير موقف الرئيس، فهو يريد إما بقاء الوضع الراهن إلى أن "يقضي الله أمرًا كان مفعولًا"، وهذا مستحيل، لأن هناك تغييرات تحصل باستمرار، وهي في مجملها تسير بِنَا نحو الأسوأ.
أو يريد أن تخضع "حماس" لشروطه بالمصالحة، التي تعني سلطة مهيمن عليها باسم حركة فتح، أو يثور الشعب عليها، لذلك فَرَضَ الإجراءات العقابية، ولم يحدث لا هذا ولا ذاك، ما يستدعي وقف هذه الإجراءات فورًا ومن دون قيد أو شرط، وهي ما كان لها أصلا أن تطبق لأنها عقوبات جماعية، وتميز بين الموظفين في منطقتين جغرافيتين لشعب واحد ومفترض سلطة واحدة .
لا يريد الرئيس أن يعطي الشرعية "للحل الإنساني" حتى لا يحصل معه مثل ذكر النحل الذي ينتهي دوره بعد أن يقوم بالتلقيح، بما يتناسب مع الحاجة الأميركية الإسرائيلية بألا تكون "حماس" المصنفة منظمة "إرهابية" هي العنوان، مع أن دورها مطلوب لأنها القوة التي يمكن أن تسيطر على الأمن في القطاع، سواء إذا عادت السلطة إليه، وهذا هو المفضل، أم لم تعد.
إذًا، في هذه الحالة تكون هناك حاجة لخلق أجسام جديدة لتمرير المشاريع والمساعدات عبرها، لذلك إما أن يعطي الرئيس عباس الضوء الأخضر للمصالحة التي تستهدف الحل الإنساني وليس مصالحة حقيقية، أو تسير من دونه، وهذا يعني بداية تشقق أكبر للسلطة ومساعي أكبر لاختيار بديل له.
الحل واضح: سلطة واحدة تمثل الشعب، لا الفصائل فقط، بمختلف قواه وقطاعاته، وتكون أداة من أدوات المنظمة الموحدة التي تسعى لتنفيذ البرنامج الوطني المتفق عليه، وهي عليها أن تعطي الأولوية لحل المعاناة الإنسانية.
في هذا السياق فقط، نستطيع أن نفهم مطالبة نيكي هيلي العرب بضرورة العمل من أجل المصالحة، وأن نفهم تخفيف الشروط الإسرائيلية على "حماس" مقابل تخفيف الحصار، وإزاء عقد تهدئة طويلة الأمد بين إسرائيل و"حماس"، وهذا يعتبر حلًا سياسيًا وليس إنسانيًا. فالآن لم يعد الحديث الأميركي الإسرائيلي (مؤقتًا) عن الاعتراف الحمساوي بإسرائيل، ونزع السلاح وغيرهما من الشروط المعروفة، بل عن ضبطه وتحديد مجالات استخدامه، لأن الحديث لا يجري عن حل للقضية، وإنما عن تصفية لها إن لم يكن ممكنًا بالجملة فبالمفرق وبالتدريج.
لذا عندما تتحدث إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية عن المصالحة، فهما تقصدان إنهاء الانقسام في السلطة، ومحاولة إدماج السلطة التي تضم"حماس" في العملية السياسية الجاري الاستعداد لإطلاقها، التي تسمى "صفقة القرن"، والتي شُرِع في تنفيذها قبل إطلاقها حتى تخلق أمرًا واقعًا يصعب رفضه لاحقًا إن أمكن رفضه الآن.
ما سبق إن تحقق وصفة مؤكدة لاقتتال فلسطيني لاحق، إذ سيتجدد الصراع على السلطة من داخلها، لا سيما في ظل أجهزة أمنية تدين بالولاء لهذا الطرف وذاك. وبشكل أدق، يريدون عودة السلطة الملتزمة بالتزامات أوسلو (طبعًا من طرف واحد) تمهيدًا لإحياء العملية السياسية الضرورية للتغطية على عملية تصفية القضية، وهذا لا يؤدي إلى تحقيق الوحدة الوطنية التي يريدها الشعب، التي تستهدف أساسًا توفير متطلبات نجاح المواجهة مع الاحتلال، وتحقيق الأهداف الوطنية، وليس فقط التوصل إلى حل إنساني لما يعانيه القطاع من كارثة لا يحتمل حلها التأجيل.
إن عدم مبادرة الفلسطينيين إلى إمساك زمام أمورهم بأنفسهم، من خلال استمرار الانقسام، والصراع على السلطة والتمثيل والقرار، وعدم تحقيق وحدة في سياق النهوض بالقضية، وإعادة بناء الحركة الوطنية ومؤسسات منظمة التحرير بحيث تضم مختلف ألوان الطيف؛ يؤدي إلى تدخل الأطراف الخارجية، وخصوصًا إسرائيل، وتحكمها بمصيرهم أكثر، من مدخل الانقسام تارة، والحل الإنساني في القطاع تارة أخرى.
هنا لا يمكن أن نبدأ بلوم الأطراف الأخرى العربية وغير العربية، بل علينا أن ننقد أنفسنا أولًا وأساسًا لأننا سمحنا للسقف الفلسطيني بالهبوط إلى هذا الحد، إذ أصبحت غزة خزان الوطنية والنهوض الفلسطيني الخاصرة الضعيفة التي تستخدم لتمرير الحلول التصفوية.
إن الخروج من الحلقة الشريرة التي ندور فيها، والتي نتائجها القادمة واضحة منذ الآن؛ يتطلب رفض أن تكون المصالحة بوابة لتمرير "صفقة ترامب" تحت اسم "الحل الإنساني"، وإنما عبر الاتفاق على رزمة شاملة تحقق الشراكة الكاملة على أسس وطنية وشراكة حقيقية على أسس موضوعية، وليس تقاسمًا فصائليًا، وديمقراطية توافقية، يخرج منها الشعب منتصرًا بلا غالب ولا مغلوب.
وهذا الأمر يمكن أن يتحقق من خلال الشروع في حوار وطني شامل، وليس تكرار القول من مختلف الفرقاء إننا لسنا بحاجة إلى حوارات جديدة بزعم أن لدينا اتفاقات تتضمن كل الإجابات. فهذا غير صحيح، فما تتضمنه الاتفاقات مختلف عليه، ويتناقض مع نفسه أحيانًا في الاتفاق الواحد، وقابل للتفسيرات المتناقضة، وهناك ما هو ناقص وحدثت تطورات عاصفة تستدعي الاتفاق حول كيفية مواجهته، أبرزها "صفقة ترامب"، وسعي إسرائيل بشكل أكبر لإقامة "إسرائيل الكبرى".
نريد حوارًا يشارك فيه أوسع تمثيل، ويهدف إلى بناء وحدة وطنية حقيقية، تبدأ ببلورة رؤية وطنية شاملة تستخلص العبر والدروس من التجارب السابقة، وتحدد الأهداف القريبة والبعيدة، وتنبثق عنها إستراتيجية تحدد كيف ننتقل من الوضع الحالي البائس إلى المستقبل المأمول، وهذا بحاجة إلى توفر إرادة سياسية مستعدة لدفع الأثمان.
وأخيًرا، "فتح" و"حماس" والكل الفلسطيني ضد "صفقة ترامب"، ولكن واقع الانقسام يجعل طرفيه يساعدان، ولو بشكل غير مباشر، على تطبيقها.
بقلم/ هاني المصري