تعمل القيادة السياسية (في فلسطين) على إجراء مراجعة جدية للموقف العام والاتفاقات الموقعة مع الجانب الاسرائيلي بعد أن وصل المسار السياسي الى طريق مسدود. وأحد الأمور التي يتم الحديث عنها هو الانفكاك الاقتصادي عن إسرائيل وضرورة التخلي عن الاتفاقيات التي تنظم العلاقة الاقتصادية ومنها اتفاقية باريس الموقعة بين منظمة التحرير وإسرائيل في نيسان/ ابريل 1994.
الجانب الفلسطيني موحد في موقفه نحو الاتفاقيات التي تنظم العلاقة الاقتصادية والمشار إليها بالعادة "باتفاق باريس". ويرى الجميع ضرورة وقف العمل بالاتفاق، ليس فقط لاحتوائه بنوداً مجحفة بحقنا؛ ولكن أيضا بسبب قيام الاحتلال بتدمير مفهوم "الاتحاد الجمركي" (بما يتبع ذلك من حرية حركة البضائع والعمال وتوحيدٍ لنسب الضرائب) الذي قام عليه الاتفاق، بعد أن أرسى الاحتلال منظومة سيطرةٍ منيعة لتقف في طريق اي تقدم اقتصادي فلسطيني.
شملت منظومة السيطرة التي أقامها الاحتلال والتي ضربت "اتفاق باريس" في صميمه على عناصر عديدة، ومنها: عزل القدس، فصل غزة عن الضفة وحصارها، واستمرار وتوسيع الاستيطان في الضفة، والسيطرة على كافة المعابر الخارجية، والسيطرة على الموارد الطبيعية، واستمرار فرض القيود على الاستثمار في المناطق المصنفة (ج)، وبناء جدار الفصل العنصري الذي صادر مساحات شاسعة من الأراضي وأطبق على ما تبقى من الاتحاد الجمركي.
وقد شكلت هذه الاجراءات في الحقيقة تنكراً فعلياً من إسرائيل للاتفاق. لذلك، يجب الاّ يجد الجانب الفلسطيني اي غضاضة في تجاوز ما يراه مناسبا من "اتفاق باريس" أو عمل ما يستطيع خارج هذا الإطار. وهناك عدد من الإجراءات التي يمكن الذهاب إليها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
* الاستغناء التدريجي عن استعمال العملة الإسرائيلية.
* اللجوء للاستيراد المباشر للبضائع من الدول الاخرى.
* فرض برنامج حماية للمنتج الفلسطيني اليافع ومحاربة سياسة اغراق السوق الفلسطينية.
* السعي لتطبيق نظام الترانزيت على البضائع المستوردة من خلال اسرائيل والتخليص الجمكي المباشر من قبل الجمارك الفلسطينية.
* تطبيق نظام صارم ضد التهرب والتسرب الضريبي على الاستيراد غير المباشر من إسرائيل.
ولا بد من التأكيد هنا على أن استمرار الجانب الفلسطيني بالعمل بالاتفاق حتى الآن كان في الأصل من باب الحاجة وليس من باب الرغبة، حيث أن النشاط الاقتصادي الفلسطيني مقيد في الواقع بأدوات وسياسات الاحتلال كما أسلفنا. لذلك فإن ما تم من نشاط اقتصادي في المرحلة الماضية هو ما تمكن الجانب الفلسطيني من تحقيقه – في ذات الإطار المقيد - نتيجة اشتباك سياسي اقتصادي بين الجانب الفلسطيني والاطراف الدولية الصديقة من ناحية وبين الجانب الاسرائيلي من ناحية اخرى.
لكن نتائج هذا الاشتباك لم تكن مرضية بالنسبة لنا بشكل كافٍ حتى الان، وإن كان هناك بعض الإنجازات الهامة. ووجب علينا لذلك الاعتراف أننا وصلنا الى حالة متقدمة من التبعية الاقتصادية على اسرائيل (خاصة في مجالات التجارة والتشغيل) من جانب، والتبعية المالية على الدول المانحة من جانبٍ آخر، ولَم نحقق مستوى مناسب من الإنجاز في إطار بناء الاقتصاد الذاتي.
ويكفي أن ننظر إلى الأرقام في هذين الجانبين؛ حيث يذهب حوالي %85 من صادراتنا إلى اسرائيل، ويأتي حوالي ثلثي وارادتنا من اسرائيل، كما يأتي أغلب ما تبقى من الواردات من خلال إسرائيل. فيما يعمل جزء كبير من عمالتنا في اسرائيل والمستوطنات (حوالي 130 ألف عامل يأتون بدخل يقدر بملياري دولار في السنة). كما تبلغ قيمة الواردات ثلاثة أضعاف قيمة الصادرات.
أما في الجانب المالي، فقد شكّلت المساعدات الدولية جزءاً كبيراً من الموازنة العامة على مدى العقدين الماضيين؛ وتركز استخدام المساعدات على المصاريف الجارية ولَم يذهب للاستثمار في تطوير البنية الاساسية
الا القليل. وعليه؛ تضخمت المصاريف الجارية بدرجة كبيرة مما خلق اعتماداً كبيراً على المساعدات الدولية وجعلنا عرضةً للابتزاز السياسي. وتفاقم هذا الوضع في الفترة الاخيرة بعد ان تراجع حجم الدعم الدولي.
أما في مجال بناء الاقتصاد الذاتي، فلم ترتق النتائج الى المستوى المطلوب؛ حيث ارتفعت نسب البطالة بشكل غير مسبوق، وبقي مستوى دخل الفرد ضعيفاً، وتراجعت مساهمة القطاعات الحيوية مثل الصناعة والزراعة والسياحة في الاقتصاد بشكل كبير. كما أدى عدم تطوير البنية التحتية لقطاعات الطاقة والصحة والزراعة الى إرهاق الاقتصاد الوطني بفاتورة واردات سنوية – لهذه القطاعات وحدها – بلغت أكثر من 2.5 مليار دولار، وهو ما يمثل نصف ما نستورده من اسرائيل.
ونظراً لجميع هذه العوامل وفي ضوء تشخيص موضوعي للوضع الذي وصلنا إليه اليوم؛ يتطلب الانفكاك الاقتصادي المنشود مع إسرائيل ما هو أبعد من إلغاء أو تخطي "اتفاق باريس" ليشمل إطلاق برنامج وطني للاعتماد على الذات.
ومن الضروري لهذا البرنامج أن يشمل عدداً من المحاور، التي يجب بدورها أن تقود إلى عملية تحوّل اقتصادي جذرية، وأن تقدم حلولاً إبداعية للوضع الاقتصادي القائم ومظاهره المختلفة. وهذه المحاور هي:
1. العمل على تثبيت حقوقنا الوطنية في المجال الاقتصادي والموارد الطبيعية، بالتوازي مع تثبيت حقوقنا السياسية.
2. دفع عملية التنمية إلى الأمام؛ خاصة في المناطق المستهدفة والمهمشة مثل القدس وغزة والأغوار، وذلك للحفاظ على الحقوق الوطنية فيها والمساهمة في حل مشكلة البطالة دعماً لثبات المواطن.
3. العمل على تطوير البنية التحتية الأساسية والتكنولوجية والبشرية لاقتصاد وطني منافس يقوم على المعرفة والإبداع ويستفيد من الطاقات الكامنة لدى شبابنا.
4. تعظيم الاستفادة من الموارد المالية العامة، المحدودة أصلا والتي تقلصت نتيجة تراجع المساعدات الخارجية، ببرنامج شراكة فعلي مع القطاع الخاص وفق نموذج "شراكة القطاع العام – الخاص" الذي أظهر نجاحاً ونجاعة عالمياً، وذلك لسد الفجوة الاستثمارية الكبيرة في القطاعات الحيوية.
وبالطبع، فإن هناك حاجة لاشتباك نضالي سياسي قانوني اقتصادي يجبر الاحتلال على التراجع عن إجراءاته المقيدة ويجعل من تنفيذ البرنامج المنشود ممكنا. يتطلّب ذلك ليس فقط الشراكة الشاملة والجامعة على المستوى الوطني، بل أيضاً فتح جبهة مناصرة وتأييد وضغط دولية، حيث أن مثل هذا البرنامج سيلقى وبكل تأكيد المعارضة والمجابهة من قبل احتلال يتنعم بوضع سياسي واقتصادي قائم ملائم ومريح بل ومربح له.
على صعيد صندوق الاستثمار الفلسطيني، يقود الصندوق مع مجموعة من الشركاء من القطاع الخاص والمؤسسات المالية الدولية، تنفيذ برنامج استثماري فعال بقيمة 2.5 مليار دولار على مدى سبع سنوات. ويهدف هذا البرنامج الذي يأتي ضمن رؤيةٍ واستراتيجيةٍ تتماشى مع متطلبات التحول والانفكاك الاقتصادي، إلى تخفيض الواردات من اسرائيل بمقدار النصف بالإضافة الى خلق مائة ألف فرصة عمل في قطاعات الطاقة والزراعة والصناعة والصحة والسياحة والاسكان والتعليم والتكنولوجيا. ويراعي البرنامج - بالإضافة للاستهداف القطاعي المدروس - الأولويات الوطنية جغرافياً في القدس والأغوار وغزة.
إن تعاوناً وتكاملاً وطنياً بين كافة المؤسسات ذات العلاقة في فلسطين وفِي الشتات، والداعمين لها، كفيلٌ بإحداث تغيير مؤثر ودحر علاقة التبعية، وخلق البيئة الداعمة للنضال الوطني الشامل والهادف للوصول الى كافة الحقوق الوطنية وتحقيق الاستقلال الوطني.
بقلم/ د. محمد مصطفى