وكأن تاريخ العرب كتب صفحته الأخيرة مع زفرة العربي التي اندفعت باكية من صدر أمير كان يغادر زمن الانتصارات على وقع كلمات أمه عائشة وهي تؤبن مجداً كان ينهار عندما تقاتل ثلاثة أمراء على عرش كان يتهاوى ليفتح الطريق لأخطر ملوك أوروبا وهو فرديناند ليعلن انتصاره علينا.
هل علينا الاعتذار لتاريخ توقف على رصيف ميناء مهجور تلاطمه أمواج من الدم التي لم تتوقف عن التدفق في عواصم تتحول إلى ركام أمام صراعات أبنائها، على حكم كان هذا عقدة العربي حتى قبل تشكُّل الدول منذ أن غادر السيف العربي غمده ولم يعد، فظل يقطر دماً في منطقة لم تعرف بطالة الحروب وهي تعد الجثث طولاً وعرضاً وارتفاعا وتغلف مذابحها بأثواب الملائكة وعمامات تتخفى خلف دين تحول تفسيره إلى مبرر للقتل باسم الله في أسوأ صراعات التاريخ وأكثرها تخلفاً حتى قبل عصور الظلام، وكأن غبار داحس والغبراء ما زال يظلل المنطقة العربية أو يعيد استنساخنا من جديد.
هل يذكر أحد معارك داعش والنصرة ؟ وكأن التشابه حتى في الأسماء يخلد إرثاً لم تصدمه كل هذه المآسي التي مازالت تضع مصحفاً على أسنة رماحها.
لقد طال ظلام العرب أكثر من ليل ذلك الشاعر الذي كان يعد أمواج بحر لا تنتهي وهو ينتظر صبحا عله يحمل أو يعترف بأن ما حدث مجرد كابوس قطعته شمس مازالت تخجل من الشروق على نهر الدم الذي يمر من عواصم كانت تبحث عن مكان، بغداد .. دمشق .. صنعاء ...حضارات تربعت مزهوة على صدر تاريخ مضى قبل أن تحطمها سيوف تراثنا الدامي وما زال معششا فينا، واعتقدنا أنها غادرت إرث الدم لنكتشف أن قشور اللغة خدعتنا لأنها كانت تخفي بين رماد تاريخ مضى جمراً كان يتقد أو ينتظر أول هبة ريح ليحرق أخضرنا مع يابسه في عواصم تدين لها الحضارات بشهادة الجغرافيا التي صهلت عليها خيول لم تتوقف عن الجري.
توقفت خيول العرب عن الصهيل واستبدلت صوتها بنحيب خافت تئن به الشوارع في عواصم كانت خلال السنوات الماضية مسرحاً للموت والعبث، وهي تجرب حظها في لعبة الموت في زمن أخلى فيه السيف موقعه لصالح الطائرة والمدفع ليصبح الموت بالجملة أقل تكلفة وهي تشحن توربينات العنف بما امتلكت من بلاغة وفصاحة الإنشاء مكللة بالهزائم.
لقد طال خريف العرب الذي تساقطت كل أوراقه دفعة واحدة، وترك أشجارنا عارية تلسعها رياح الفقر والجوع والمرض في أوطان أصبحت طاردة لأبنائها لأنها امتهنت الموت بلا رحمة.
وكل طرف من متصارعي السلطة كان يفاخر بالقتل الذي استدعي في لحظة كوميديا سوداء أحدث رسائل التكنولوجيا لإخراجه حرقاً أو تقطيعاً أو ذبحاً بالسكين.
من صاحب فكرة الفوضى والربيع والخريف وكل فصول الدمار ليس أعداؤنا فقط، بل علينا الاعتراف أن لدينا ما هو كامن فينا من تحفز لامتشاق السيف والقتل، وأن لدينا كل المؤهلات لعنف لا ينتهي من المنظرين والدعاة ممن تقطر ألسنتهم بشهوة الدم ليصبح الذبح حلالاً فالتسمية على رقبة القتيل فريضة يؤجر عليها القاتل.
ما حدث من رجة عنيفة خلال السنوات القليلة الماضية بالعدد والكثيرة بالجثث كان يجب أن يحدث الصدمة اللازمة للانتقال نحو عصر قداسة الإنسان والخشوع لبقعة الدم والانتقال نحو بقعة الضوء، لكن لم يحدث، قد يتوقف القتل لكن أسبابه مازالت بيننا.
علينا التوقف عن اتهام الآخر باعتبارنا أكثر براءة من دمنا، فما زلنا ورثة ثقافة الإقصاء والتنميط وما زال كل منا يحمل في صدره ديكتاتورا مصغرا ينتظر لحظة انطلاقه حين تلوح الفرصة، وما زلنا أسرى تاريخ توقفنا جميعاً عند بواباته الصدئة بلا رغبة بالتقدم.
فقط نستهوي السكن في الماضي بل نستدعيه للانتصار على واقع غاية في البؤس لنضع كل المتاريس أمام مستقبل أجيال قادمة.
كان الدم الأقل تكلفة بين الخسارات وهو يسبح فوق دجلة والفرات وكل الأنهار التي احتضنت حضارات، فقد دمر خريف العرب تلك الحضارات وتراثها ورقيماتها وحجارة نقش هويتنا منذ أن كانت البشرية تحبو نحو الحياة، ولكن الأخطر ما استنبتته من ألغام في الوعي الذي استل دفعة واحدة كل أحقاد التاريخ ليفرشها على مساحة الجغرافيا وعلى مساحة عقول الأجيال القادمة.
لم نخرج للنور ونحن نرمم ما انكسر فينا من خزف كان محشواً بثقافة البارود ونحاول أن نلعق جراحاً تفتحت في ما سموه ربيعا عربيا حالك السواد لمنطقة آخذة بالهدوء بعد أن تحطمت، مئات المليارات احترقت ومئات آلاف الجثث تفحمت وعواصم تحولت إلى ركام يتربع عليها وعي مدجج بالخراب، لم نستفد من تجربتنا بعد بل فقدنا الثقة بأنفسنا أكثر وأصبح العربي يخشى العربي في حالة خوف وتربص بعد كل ما تفجر من عنف وأحزمة مهد لها رجال الفتنة وشيوخهم.
يا لهول ما حدث في المنطقة العربية في سنوات كانت خريفاً توقفت عنده ساعة زمن العرب الرملية المحشوة بالبارود ولم يذهبوا للشتاء بعد لأنهم كسروا بأيديهم أقدام خيولهم ...!!!
بقلم/ أكرم عطا الله