لم يتوقع أحد أن تأخذ أحداث الضفة الغربية هذا القدر من الجدل على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي سهلت قياس الرأي العام على المسؤولين؛ حيث وفرت لهم فرصة التواجد بين الجمهور وهم خلف مكاتبهم لتعديل أو تصويب سياساتهم، فكل شيء أصبح معلناً والسياسة أصبحت على درجة كبيرة من الانكشاف، بل وأصبح السياسي أكثر تأثراً بما يُكتب أو يُقال.. وتلك بحاجة إلى نقاش آخر.
الوضع الفلسطيني يزداد تعقيداً، وكل شيء مختلَف عليه، ولم يعد هناك معيار واحد تقاس عليه الأمور كما في زمن سابق وعصر ياسر عرفات وزمن الثورة، وهذا طبيعي لأننا نقع في منطقة وسطى بين الثورة والدولة، أو بين المقاومة والسلطة أو بين الكفاح والحكم وبين الرغبة الحالمة وبين احتياجات الناس. وهذه المنطقة الرمادية خلقت ما يكفي من التيه وأفقدتنا كل المعايير التي نقيس عليها معادلاتنا السابقة.
أحداث الضفة التي اندلعت، مع نهاية الأسبوع، كانت محل جدل ونقاش واصطدام حتى بين الإخوة الألداء في ظل حالة التربص وثقافة الشك التي تسود بين المتصارعين في الساحة الفلسطينية على حكم بائس، وأصبح كل شيء لدينا مدعاة للفرقة والاختلاف بل لتوجيه الاتهامات، وأبعد من ذلك بالاعتداء إن أمكن، وهو ما لا يليق بشعب تحت الاحتلال يتعرض يومياً لأقسى أنواع الذل والحصار والقمع لمشروعه الوطني دون أن يأبه أن الإسرائيلي يعد له الأسوأ تواطؤاً مع الأميركي الذي يتحفز لشطب قضيتنا.
أحداث الضفة الغربية أظهرت جسامة الخسارة في انقسامنا المزمن وأظهرت تعقيد الخيارات الفلسطينية، فالمقاومة من جهة مطلوبة ضد الاحتلال ولكن ثمنها الذي ظهر من معاناة للسكان والإعلان عن إنشاء بؤر استيطانية جديدة ثمن باهظ، كما أن عدم المقاومة أيضاً له ثمنه حيث التسيّد الإسرائيلي والعربدة وانتشار الاستيطان دون توقف.
إذاً نحن أمام معضلة إذا كانت المقاومة مشكلة وانعدامها مشكلة، وهذا هو الوضع الأسوأ الذي وضعتنا فيه إسرائيل جعل كل خياراتنا ليس أمامها سوى الخسارات.
وفيما يقول مؤيدو حركة «حماس» وبعض الفصائل بضرورة العمل العسكري في الضفة الغربية وضرورة المواجهة وهو ما عبرت عنه البيانات الصادرة عنهم، ترى حركة «فتح» أن العمل العسكري في الضفة الغربية هو مجموعة خسارات لن تستطيع مواجهة إسرائيل ولكن ستعطي لها مبرراً لفعل ما تريد.
الحقيقة التي تراءت أمامنا أن اللحظة التي تم فيها الانتقام للشهداء وتمت فيها العمليات كانت حركة «حماس» كأنها تشير للسلطة بأصبع العجز، بينما كانت السلطة ترى الأمر بأنه استهداف لها ولاستقرارها، مستذكرة تجربة غزة التي بدأت بالمقاومة وانتهت بطردها من غزة. وما بين هذا وذاك هوة كبيرة لا يمكن جسرها ولكنها مدعاة للخوف من ثقافة الشك والتربص السائدة.
ووسط ثقافة الشك والانقسام التي ننشغل بها يضيع وطن وتضيع قضية ويُسحق مواطن، ورأينا كيف تم الاعتداء على مسيرة في الضفة الغربية، وهو ما رأيناه سابقاً في قطاع غزة حيث الاعتداء على تجمعات للمواطنين. والمشهد يبدو كاريكاتورياً عندما يظهر هذا القدر من الغضب لدى مؤيدي «حماس» حين تم الاعتداء على التظاهرات في الضفة الغربية وكذلك هذا القدر من الغضب لدى عناصر «فتح» عندما يتم الاعتداء على المواطنين في قطاع غزة، فيما يصاب كل منهم بحكمة الصمت حين تعتدي الأجهزة المؤيدة لحزبهم على المواطنين.
وفيما يدير الفلسطينيون المعركة بينهم بلا رحمة وبكل هذا الصخب يدير الإسرائيلي معركة منظمة ضدهم وضد مشروعهم ومستقبلهم وحلمهم بهدوء شديد، تاركاً الانشغال ببعضهم وصراعهم على الحُكم. وهو يدرك أنه يتجهز للإجهاز على ما تبقى من الحلم متكئاً على قصر نظرهم ونهم السلطة لديهم، فقد تمكن من تحويلهم إلى أعداء لبعضهم البعض.
نحن أكثر بؤساً من المزاودات التي أصبحت دفتر يومياتنا على وسائل الإعلام ومن الاتهامات التي تساق ضد بعضنا. فالعداء الذي يتنامى بين القوى أصبح مخيفاً لدرجة خطيرة، وقد أثبتت أحداث الضفة الغربية حجم هذا العداء الذي تغذيه إسرائيل يومياً؛ لأنها اكتشفت أنه أقصر الطرق للقضاء على حلم الفلسطينيين ومشروعهم وأدواتهم الكفاحية ضدها.
العداء الذي تعمل إسرائيل على تنميته منذ سنوات طويلة بين القوى الفلسطينية ومنذ ثمانينات القرن الماضي أعمى الفلسطينيين عن رؤية مشروعهم وعن النظر لما تفعله إسرائيل وما تريده.. لقد انتهى حل الدولتين، والممارسة الإسرائيلية المعلنة لم تعد سراً وهدفها السيطرة على الضفة الغربية وتقليص الوجود الفلسطيني هناك والحفاظ على سلطة ضعيفة دون تمثيل سياسي.. سلطة خدماتية فقط تدير احتياجات السكان دون الاعتراف بحقوقهم، وهي تعمل ليل نهار في تسابق مع الزمن لهذا البرنامج. والسؤال الذي ينبغي فلسطينياً: كيف يمكن التصدي لهذا المشروع؟ وهو ما يجب أن يشكل برنامجاً للعمل الوطني.
وفي ظل غياب السؤال وغياب الجواب وحين تحل الاتهامات ورغبة كل طرف بتحطيم الآخر يبدو الأمر مثيراً للحزن. فالقوة الفلسطينية بمجملها بالضفة الغربية بالكاد تستطيع أن تتصدى، فما بالنا ونحن نراقب كيف يتربص كلٌّ بالآخر ولا أحد يدعى البراءة في ما يحدث؛ فكل يخاف الآخر. وفي ظل هذا المناخ من الصعب الاعتقاد أن الوطن بخير.. فالضفة تحتاج إلى وحدة حال وبرنامج موحد وتماسك أمام الغول الإسرائيلي الذي لا يتوقف عن الاتهام، لا أن يعمل أحدنا ضد أخيه الآخر...!
بقلم/ أكرم عطا الله