نحتاج الكثير من الدراسات كي نفهم هذا الواقع العربي الذي لا يزال متسمراً وغارقاً في صراعاته القديمة، ونحتاج إلى الكثير كي نفهم طبيعة هذه المجتمعات العربية التي تسكن في الماضي بلا أي تحرك للأمام. ودائماً يكون السؤال الحاضر بين النخب لماذا نحن هكذا؟ وأين الخلل الذي حال دون اللحاق بركب أمم أقلعت نحو الحضارة وقدمت نماذجها في التقدم بكل شيء بدءاً من حقوق الإنسان مروراً بالجيوش وصولاً للصاروخ وفي كل شيء مستوى يسير بخط صاعد نحو الأمام.
إلا الدول العربية ومجتمعاتها، كأن قطار الحضارة والتقدم سار بعيداً تاركاً تلك المجتمعات على أرصفة الفقر والضعف والحرمان. فلا حقوق إنسان ولا جيوش قادرة على الدفاع عن أوطانها ولا اقتصاد ينافس في العالم ولا اختراعات علمية، بل والأسوأ مازالت تصفي حسابات ميراث ثقيل لم يكن لها دور في صناعته وتاريخ من الدم لم تكتب المجتمعات الحالية أي سطر فيه وحملت على أكتافها اكياساً من الدم والاحقاد.
الفرق بيننا وبين المجتمعات الأخرى أنها تمكنت من إعادة هندسة ذاتها وعلاقاتها وفقا لنظريات سياسية حديثة بعد أن تصارعت هي الأخرى، لكنها تمكنت من إيجاد قواعد ومعادلات نفضت إرثها القديم نحو عالم مختلف. وبمعنى آخر وضعت قدمها الأولى على سكة الحياة بعد أن أدركت أن عصر القبيلة يختلف عن عصر الدولة، وأنه لا يمكن لأية كتلة اجتماعية أن تسحق أية كتلة أخرى، وأن التطور الطبيعي لتلك المجتمعات وثوراتها العلمية والصناعية أفضت إلى تغيير هادئ، لأن الصناعات والمصانع أفضت لتشكيل نقابات عمالية وتشكيل جماعات من أساس المصالح، تحولت تلك مع الزمن إلى أحزاب سياسية تعبر عن تطلعات الأفراد وحقوقهم، وهكذا انولدت السياسة ونظرياتها وتوازناتها.
إذاً كل شيء سار وفقاً للتطور الطبيعي، لكن سبقته إرادة تلك المجتمعات بالتقدم والتطور لا التصميم على السكن في التراث وأنماطه القديمة وتقليد الأصول باعتبارها نماذج تصلح لكل العصور. وإذا ما دققنا في طبيعة المجتمعات العربية وحجم تطورها كمجتمعات، لم تحدث حتى اللحظة عملية قطع مع نمط العشيرة سواء في نمط التفكير أو حتى بطبيعة العلاقات البينية بين الكتل الاجتماعية، إذ يجري النظر اليها كقبائل أُخرى، ويمكن النظر للأحزاب السياسية القائمة في المجتمعات العربية، هذا إذا ما تجاهلنا طبيعة القوة الصناعية في العالم العربي وفقره إلى أبعد الحدود.
في العالم ولدت السياسة مع ميلاد النقابات وتجمعات المصالح وخلقت معادلات التوازن بينها، ومنها نحو التكتلات الاجتماعية الكبرى التي تحافظ على حقوق جميع أفرادها، وهكذا الأحزاب السياسية ثم يجري العمل على تشكل المؤسسة التي تجمع كل هؤلاء وشكل المؤسسة الذي يتم التعبير عنه بالحكومة والبرلمان، ويتم صياغة علاقة بين كل هؤلاء وفقاً لمنظومة تشريعات أخذت طابعاً مقدساً لا يمكن تجاوزه، وهذا هو القانون الذي أصبح فوق الجميع، ولم يكن كل ذلك ممكناً لولا فهم الحد الأدنى من ممارسة العمل الجماعي، وهو القواسم المشتركة أو الحلول الوسط يما يتطلبه ذلك من تنازل لصالح الآخرين وتلك هي السياسة.
في العالم العربي مازالت أبجديات السياسة وألف بائها بعيدة عن ثقافة مجتمعاتها التي لم تبتعد كثيراً عن ثقافة القبيلة بكل مكوناته، وخاصة نظمها السياسية التي تشكلت في نصف القرن الأخير، وتلك لم تكن سوى انعكاس لبنية مجتمعية لم تغادر ثقافة العشيرة بعد، فأنتجت هجيناً مشوهاً من السياسة لكنه بالحقيقة بعيد عنها.
السياسة هي تجربة التوافقات والحلول الوسط، ولا توجد تجربة شراكة واحدة نجحت حتى الآن في الوطن العربي يمكن الاشارة إليها كدليل على بداية تجاوز القائم أو مغادرة مربع الحالة الصحراوية. ويمكن هنا الإشادة بالتجربة التونسية إلى حد ما، وإن كان لها ظروفها ودرجة نضوجها، ولكن بقية التجارب مازالت توغل في الإقصاء والشطب واللاتوافق حد الدم، إما في السلطة أو في السجون للمعارضة ولا حلول وسط.
في العالم العربي لا نقابات حقيقية، مجرد هياكل تديرها السلطة وتدير مصالح المنظمين فيها، لا أحزاب سوى أشياء مستنسخة من ثقافة القبيلة، ولا انتخابات جديدة، فالانتخابات كما درجت العادة معروفة نتائجها مسبقاً، ولا تداول للسلطة. أما البرلمانات فهي عبارة عن تجمعات صورية كجزء من موالاة النظام السياسي لا تخرج عن طوعه، بل غالباً ما يتم تفصيل التشريعات وفقاً لرغبات هذا النظام أو ذلك، والحقيقة أن تلك البرلمانات بما تكلفه تصبح عبئاً على الدولة والمجتمع، والجميع يعرف أنها أقل من أن تلعب دوراً بالرقابة أو بالتشريع.
إذاً، هل علم السياسة الذي أنتج وتطور بمفهومه الحداثي المدني في أوروبا نتاج تراكمات اجتماعية وحاجات طبيعية هو علم غريب عن العرب؟ ربما ... ذلك لأن ما بُني من هياكل مازالت بعيدة عن الحد الأدنى من فهم السياسة وعلومها وكأنه تم نقل هذا العلم الى بيئة ليست بيئته بل هو غريب عنها.
الهوة واسعة، إذ تم تركيب هياكل دولة ومؤسسات سياسية حديثة لكنها تدار بعقل صحراوي قديم جعل من تلك الهياكل مجرد بنى صورية، ولا يمكن المحاججة في ذلك في عالم عربي تلعب فيه أقارب الزعيم وعائلته دوراً أهم كثيراً من دور البرلمان والحكومة حتى.
وفي الحالة الفلسطينية فإن تجربتنا الانقسامية أعطت من الدلائل ما يكفي للتأكيد أننا لسنا سوى ورثة العقل العربي بكل مكوناته الذي أنتج ممارسة لا علاقة لها بالسياسة، بل إن تجربتنا الإقصائية كأنها نتاج هذا التاريخ الصحراوي الطويل وعقل القبيلة.. ما لدينا من قوى سياسية ليست بعيدة عن ذلك ومؤسسات غائبة، وهذا يحتاج إلى قراءة أُخرى..!
بقلم/ أكرم عطا الله