اعتادت إسرائيل مع كل انتخابات أن تشهد قدراً من المفاجآت فتظهر فجأة أحزاب وتختفي أخرى، أحزاب تصعد بسرعة صاروخية وأخرى تختفي من الساحة. فهي تشهد قدراً من الديناميكية التي تجعل من متابعتها أمراً مطلوباً حتى قبل أن تجري الجولة منذ بدء الاستطلاعات لمحاولة استشراف الخارطة الحزبية، ثم بعد الانتخابات لمعرفة خريطة الحكومة واتجاهاتها السياسية والدينية وغيرها.
هذه المرة ظهر رئيس الأركان الأسبق بيني غانتس وقد فاجأ الجميع بحضوره في الاستطلاعات، إذ يحصل حسب الاستطلاعات على 22 مقعداً في معظمها، وهي تؤهله ليكون رقماً مهماً في الخارطة السياسية الإسرائيلية. وبدأت التحليلات تتجه حول غانتس، كمفاجأة سيشكل الحكومة القادمة، خاصة أن تحالفه مع يائير لابيد رئيس حزب «ييش عتيد» سجل تفوقاً على حزب الليكود أي 32 مقعداً، وإذا انضم رئيس الأركان الأسبق غابي أشكنازي حتى دون أن ينضم حزب «لابيد» سيحصل غانتس على 28 مقعداً وفي هذا ما يثير المتابعة حيث يصبح غانتس اللعبة الجديدة أو سيد اللعبة التي تقلب الخارطة السياسية.
يجب عدم المبالغة في هذا الأمر رغم أهميته. فإسرائيل باتت منقسمة انقساماً بين اليمين فقط أي أن غانتس حتى لو حصل على أصوات كثيرة و»قد يتغير الأمر حتى الانتخابات التي ستجري بعد شهرين»، لكنه، وهو الذي افتتح دعايته الانتخابية على ركام غزة، وهو قائد حربها تحت إمرة نتنياهو، لن يختلف كثيراً والأهم أنه رفض حتى الآن التعهد بعدم الانضمام لحكومة نتنياهو، لكن ليس هذا هو الأهم.
الصراع في إسرائيل انتخابياً بين يمين ويمين بعد اختفاء اليسار فيها، والصراع الآن بين يمين يعرض التوجهات العلمانية التي تخص المجتمع الإسرائيلي، وبين يمين اجتماعي صرف، لكن الملف الفلسطيني لم يعد جزءاً من النقاش العام في إسرائيل حتى أن بقايا اليسار هناك لم تعد تتحدث لا عن تسوية ولا عن سلام. وعلى الرغم من الإرث السياسي لحزب العمل إلا أن الحزب الذي حاول أن يصنع التاريخ على يد الثنائي رابين وبيريس يهرب من تاريخه بل ويجاري اليمين للتنافس على مجتمع أصبح مزاجه العام أكثر قومية وأكثر راديكالية وتلك هي الحقيقة.
يمين ويسار هنا مسميات لها علاقة بالرؤية الاجتماعية وليست السياسية تجاه الفلسطينيين؛ لأن أكثر من تصرف بعنجهية واستيطان وردع هو أيهود باراك وكان أكثر صقورية من بعض زعماء اليمين. لكن عملياً هذا اليسار انتهى، فعلى خجل يصنف بعض الصحافيين الإسرائيليين الآن أحزاباً لديها بعض شبهة اليسار مثل حزب «ييش عتيد» باليسار الوسط، أي الذي يقف منتصف المسافة بين اليمين واليسار، وهو الحزب الذي كان جزءاً من حكومة نتنياهو السابقة إلى أن تخلى عنه الأخير تماماً لأن إسرائيل بدأت تتمكن بدءاً من 2015 من تشكيل حكومة يمين ومن اليمين الصرف دون أي شبهة يسارية حتى لو بالخطأ.
هنا بيت القصيد الذي يؤكد ديناميكية الحالة السياسية الإسرائيلية في إطار ستاتيكية اليمين الذي تتحرك الأصوات داخله، أي أن المعسكرات في إسرائيل أصبحت أكثر وضوحاً وقد مالت الغلبة منذ سنوات لصالح اليمين القومي والديني، وهذا بسبب انعكاسات ديموغرافية لأن المجتمع الإسرائيلي ينزاح منذ سنوات كأسر صغيرة تختلف في ثقافتها الإنجابية لصالح اليمين القومي والديني والشرقي الاستيطاني، وهذا يعبر عن نفسه في الأحزاب باستثناء علمانيي حزب العمل وليبرمان القومي العلماني، فهذه الأسر قليلة الأعداد وهي في حالة تراجع انجابي وانتخابي.
في إسرائيل ما يشبه المعسكرين: معسكر اليمين ويقوده نتنياهو، ومعسكر آخر تتغير قيادته: مرة ليفني ومرة العمل ومرة لابيد، وهو معسكر غير متجانس. أحياناً يحسب البعض الأحزاب العربية في إطار هذا المعسكر، ولكن الأمر غير ذلك فهي ليست جزءاً منه، لكنها تشكل في حساب الأعداد مانعاً لنتنياهو لتشكيل حكومة إذا لم تحصل كتلته على العدد المطلوب.
ولكن كتلة اليمين تزداد صلابة ولا تعود للخلف وكل ما يحدث في إسرائيل أن حرب المعسكرات أصبحت داخل المعسكر نفسه. نتنياهو حين يصعد يأخذ أصوات من ليبرمان ونفتالي بينيت، وتبقى الكتلة شبه ثابتة إلا من الانزياح الطبيعي، وكذلك في المعسكر الآخر فإن غانتس يأخذ من حزب العمل الذي تحطم وهبط في أحد الاستطلاعات إلى خمس مقاعد، ويأخذ كذلك من لابيد أو ميرتس. أي أن التغير لا يحدث بتفوق معسكر على آخر بل داخل المعسكر نفسه، وقد بات معسكر نتنياهو هو الأكثر حظاً والأكثر قدرة على تشكيل الحكومة منذ سنوات، وبالتالي فإن نتنياهو وحزب الليكود على الأغلب، وفقاً، لذلك هو من سيتمكن من تشكيل الحكومة الجديدة حتى وإن تمكن تحالف غانتس لابيد من تجاوزه، إلا إذا حدث وأن تخلى بعض أقطاب اليمين وشركاء نتنياهو التاريخيين عن زعيمهم.
هذا مشكوك فيه ولا يعني أن يشكل تفوق بيني غانتس لو تحالف مع يائير لابيد ضمانة لتشكيل الحكومة، وقد حصل ذلك في انتخابات 2009 التي تفوقت فيها زعيمة حزب كاديما السابقة تسيبي ليفني على نتنياهو الذي حصل على 27 مقعداً آنذاك، أي أقل منها بمقعد ومع ذلك شكّل نتنياهو الحكومة لأن توصيات الأحزاب الإسرائيلية التي يلتقيها الرئيس وتحدد تكليف رئيس الوزراء أعطت أصواتها لنتنياهو وليس لليفني. فهل من الممكن لو حصل غانتس ولابيد على مقاعد أكثر من نتنياهو أن يوصي بينيت وشاس ويهودات هتوراة بتكليف غانتس؟ هذا أمر مشكوك فيه لأنه اتهم بالعلمانية واليسارية ولن تقبل الأحزاب الدينية به.
ما يلفت النظر على المدى البعيد سياسياً في إطار قراءة التوازنات التي حسمت لصالح كتلة اليمين تماماً وإلى غير رجعة أن أسدلت إسرائيل الستار على يسارها الذي حاول أن يوهم العالم بالتسوية وافتتحت عهد اليمين للأبد. وأمام هذه القراءة وهذا الواقع الذي يزداد يمينية أكثر مع تقدم الزمن فالخط البياني لليمين صاعد باتجاه واحد، والمناخات أكثر سلبية بالنسبة للفلسطينيين، فرئيس الكنيست يتحدث عن الضم، والدعاية في إسرائيل تنصب على أيهما أكثر عداء للفلسطينيين وأيهما أكثر تنكراً. ووسط هذه الأجواء يبقى سؤال البحث عن المشروع الوطني هو السؤال الغائب وسط صراعنا الدائم بيننا وصراعهم علينا ...!!!
بقلم/ أكرم عطا الله