استشهد يوم 6/2/2019 الأسير الفلسطيني فارس بارود سكان قطاع غزة والذي قضى 29 عاما في سجون الاحتلال بعد صراع مع المرض والنسيان ونتيجة السياسة الممنهجة والمتواصلة للإهمال الطبي والاستهتار بحياة وصحة الأسرى وعدم تقديم العلاج اللازم لهم.
ارتفع عدد شهداء الحركة الأسيرة إلى 118 شهيداً ارتقوا منذ عام 1967 بسبب المرض أو التعذيب أو القتل المباشر، وفي نفس الساعة التي استشهد فيها الأسير فارس بارود أفرج عن الأسير فادي مرتجى من سكان قطاع غزة بعد قضاء 16 عاماً في السجون، وعلى حاجز الظاهرية في الخليل استقبلنا فادي جسدا وفارس روحا، أفرج عنهما، وعلى الحاجز التقيا , يتبادل الموت ذلك الكلام مع الحياة.
الشهيد الأسير فارس بارود لم يجد أمه وأبيه في استقبال روحه المزهوقة المظلومة بعد غياب طويل، فقد توفي والداه خلال وجوده في السجن، وكانت أمه الكفيفة تنتظر الإفراج عنه في الدفعة الرابعة عام 2014 وفق التفاهمات الفلسطينية الإسرائيلية بالإفراج عن المعتقلين ما قبل اتفاقيات أوسلو، لكن حكومة الاحتلال لم تلتزم بذلك. لم يفرج عن فارس بارود، ظلت عينا والدته مغلقتين في جوف ظلام دامس وعميق حتى انطفأت الحياة.
الأسير المحرر فادي مرتجى لم يجد أمه وأبيه في استقباله على حاجز الظاهرية لأنه أفرج عنه إلى الضفة الغربية حيث تعيش زوجته وأولاده، والداه توفيا خلال وجوده في السجن، وكانت مفارقة مجروحة، هناك على حدود غزة قبور الآباء والأمهات تنتظر، وهنا على حاجز الظاهرية يلتقي الغائبون في الأبدية، شعب واحد منقسم في و طن واحد وفي قبرين، الفرحة على الحاجز كانت منقوصة، سياج شائك ينغرس في الذاكرة.
كلما دنا الفلسطيني من الغد طارده الموت أو السجن، تأخر الفجر، اتسع القبر، وتصبح أحلام الفلسطيني مجرد أمنية، يريد ان يحيا ويعرف الوقت الذي مضى والوقت الذي سينقضي، ان يتحرر من السجن والقبر ويحلق في أغنيته.
الحي والميت اجتمعا هناك خلف القضبان، أفرج عنهما معا، جسد واحد، تفرقا على الحاجز، واحد إلى سماء رمادية في غزة، والآخر إلى ارض منهوبة ضيقة في الضفة، فهل الحياة بين غزة والضفة على الحاجز العسكري ممكنة؟.
يقول الأسير المحرر فادي مرتجى: خرجت أنا من السجن لتدخل أنت يا صديقي من الدنيا إلى الآخرة، تأخذ اسمي وآخد اسمك، نتبادل الأسماء والكلام، أحدثهم عنك وتحدثهم عني، اقترب منك وتقترب مني، نلتقي على ارض كانت لنا فصارت أرضا مجاورة.
يقول الشهيد فارس بارود: مررت في حياتي على كل مستشفيات سجون الاحتلال، وعندما كنت في ما يسمى مستشفى سجن الرملة رأيت القيامة، رأيت الموت ألف مرة، رأيت المشلولين والمعاقين والجرحى والمصابين بالسرطان، هذا المشفى قبر، أقدام مبتورة، أجساد ترتجف وترتعش، أكياس طبية وأسلاك وعكازات وأوجاع وصرخات دائمة، أطباء في زي جلادين، الموت يوقظ الموت هناك، الأبراش توابيت، المرضى يتسابقون إلى الموت بلا مواعيد، اليوم أنا، غدا أنت، سأموت في الليل أو أموت ظهرا، همي ان اختار ساعة مريحة للموت، ما شكل الجنازة الباردة؟، ما شكل الموت؟، ما لون الصمت؟، من مات منا أولا أنا أم أنت؟.
يقول الأسير المحرر فادي مرتجى: الاستقبال واحد، نزف الحي كما نزف الميت، لكن الأرض في طريقي ناشفة، ربما توحدت يا صديقي مع جسدك في الملكوت الأعلى فوق شجرة زيتون باسقة، ربما لا زلت أنا أتسلق جسدي لأصل إلى روحك العالية، لم أجد سلاما وأمانا في طريقي إلى البيت، لا قمح في الحديقة، مجرد لافتات تدل علي، لافتات تدل عليك، هناك ثالث يتدخل في الحوار بيننا، هناك بندقية وحاجز مسلح وجدار وأبراج وبساتين مجروفة خالية.
يقول الشهيد فارس بارود: خرجت من السجن، سلمت روحي وأدويتي وبقايا عمري، خرجت هادئا حالما طائرا، لم أكلفهم ان يفتحوا أبوابا، أو ان يفكوا قيوداً، تركت لهم سعالي ودمي وقهري وغضبي على البرش في السجن، لقد تحركت من مكاني أخيرا، أنا حي، احمل الهواء عنك يا صديقي لتحرك في حقول حياتك أغصان الشجر.
يقول الأسير المحرر فادي مرتجى: خرجت وورائي ستة آلاف أسير فلسطيني، أطفال وشبان ونساء وكبار في السن، يدورون بين حلقات المؤبدات والسلاسل وبوابات السجون، يمر الزمن بطيئاً، تقتحم غرف نومهم قوات قمعية تداهم أحلامهم في أيديهم كتاب ونبوءة، يعيشون في السؤال: هل الجبال على حالها؟، والأهل والأصدقاء والشوارع ورائحة الفجر والصلاة؟, هل يذكرنا احد؟، لقد قدمنا كل شيء لنرى سنبلة أو قمرا من بعيد، هل تركونا يا صاحبي؟، أودعك الآن مستعجلا غدي، لماذا لم تودعني وتفك القيد عن يدي؟.
يقول الشهيد فارس بارود:
لماذا تذكّرني بوطن لا أراه معك؟
يقول الأسير المحرر فادي مرتجى:
لأنك إحدى صفات الحرية والكرامة والشرف والأبد.
بقلم/ عيسى قراقع