عثر على جثة المرحوم الشاب إسلام الصيرفي سكان مخيم عسكر قضاء نابلس في قاع وادي الباذان يوم 1/2/2019، وحسب معطيات الشرطة الفلسطينية انه أقدم على الانتحار بإلقاء نفسه من فوق صخرة الباذان التي تسمى صخرة الموت، ليتكرر مشهد انتحار الشبان ووضع حد لحياتهم والتي أصبحت ظاهرة مفجعة وصادمة تستحق التوقف عندها، والنظر بمسؤولية من فوق صخرة الباذان إلى القاع الذي يعج بالأسئلة.
الشاب الصيرفي عرف عنه انه ممثل وفنان مسرحي، حكواتي دائم المرح وشارك في العديد من الأنشطة التي تزرع البسمة والفرحة على وجوه الأطفال، كان يجترح الضحك والبهجة والحكاية في فعاليات المخيمات الصيفية للأطفال الصغار، ويتغلب بقدرة فائقة على حالة القنوط والاغتراب والضغط الذي يتعرض له أبناء شعبنا الفلسطيني على يد الاحتلال، تحايل على الواقع بالأغنية والنكتة الساخرة، بالموسيقى وصناعة الحلم والأمل عندما تتوقف الأحلام والآمال.
لماذا انتحر إسلام الصيرفي؟ الشاب الذي أعطى الحياة للآخرين ولكنه لم يعطها لنفسه، راهن على القادم الأجمل وتغيير الحال، امن بالمستقبل وبتفوق إبداع الأجيال على ظلم الاحتلال، جاب بفرقته الفنية كل البلاد، ربما لم ينتحر، ربما تزحلق من فوق الصخرة، أخذته خيالاته البعيدة إلى الفضاء، فقد التوازن بين الواقع والخيال، تسلق سلم الهواء فخطفته الهاوية.
تقارير الشرطة الفلسطينية حذرت أكثر من مرة من ارتفاع ملحوظ في عدد حالات الانتحار لتتحول إلى ظاهرة تستدعي دق ناقوس الخطر، إذ يبلغ متوسط حالات الانتحار سنويا ما بين 20 إلى 35 حالة، ويجري الانتحار اما بالشنق أو الحبل أو السقوط من علو أو من خلال تناول الأدوية والسموم، والغالبية من الشبان والشابات.
تقارير الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني تتحدث بان معدل البطالة في فلسطين وصل إلى 30% بواقع 149.800 من العاطلين عن العمل في الضفة الغربية و 255.000 في قطاع غزة وانخفاض واسع لعدد العاملين في السوق المحلي، وان نسبة خط الفقر الوطني ارتفعت بين عامي 2011 -2017 لـ 13.9% في الضفة الغربية، بينما ارتفعت نسبة خط الفقر المدقع خلال نفس الفترة 12.7% في حين ارتفعت في قطاع غزة لتصل 53%.
الواقع النفسي والاجتماعي والاقتصادي وغلاء المعيشة والاحتكار والمحسوبيات وغياب برامج التكافل والدعم النفسي والاجتماعي وبرامج التنمية في فلسطين يقود إلى الانتحار، فالمجتمع الفلسطيني محاصر ومنهوب الثروات ومغلق، تحول إلى سجن كبير مطوق بالحواجز والجدران والفقر والبطالة والموت اليومي والكوارث المستمرة.
الصيرفي الضحوك كان متألما في داخله، وعندما رفرف ورقص من فوق صخرة الباذان وجد ان ذلك أفضل علاج للألم، فالطير يرقص مذبوحا من الالم، لم يكن ضعيفا أو منهارا، كان قويا شامخاً مدهوشاً، لعله أراد ان يحرك السعادة على وتيرة أخرى أكثر روحية ويرتطم بالصخور الحادة بقوة، أراد انفجاراً انسانياً واجتماعياً وموتا فيه هواء وماء وعاصفة.
لم يقل لنا الصيرفي شيئاً، اختلى مع نفسه لم يطلب طعاما لابنه الوحيد، لم يطلب وظيفة أو عملاً بعد ان أغلقت في وجهه كل السبل، لم نسمع خطابه الأخير من فوق صخرة الموت، ما هذا الوداع؟ ما هذا التحرر من خشية الزمن القاسي والسفر إلى المجهول والأعماق؟ السماء أصبحت حفرة واسعة لكنه وصل الغيوم.
سقط الصيرفي من فوق صخرة الموت، وهي حافة حادة مرتفعة تشرف على وادي الساجور السحيق، وتحتها وحولها تجري مياه الينابيع العذبة والبساتين الخضراء والأشجار والنباتات والأزهار البرية، جسد الصيرفي غطته أزهار النرجس والدحنون وقرن الغزال، حملته الجداول في الوديان إلى أشجار الحور والصفصاف وأوراق العنب.
اختار الصيرفي تلك الصخرة العالية ليكون عاليا في موته كما كان عاليا في فرحه وأناشيده وحبه للأطفال، اختار الصخرة التي اعدم عليها عشرات الثوار على يد الجيش البريطاني في عهد الانتداب، هناك رائحة دم وورد وغضب وصوت للفدائيين، الموت ليس دائما يقود إلى الفناء، الموت الان كان تمردا ورسالة إنسانية من الفقراء والمقهورين واللاجئين والمعذبين إلى العدالة الاجتماعية ومناصري الحرية.
الصيرفي فوق صخرة الموت، الدم يخرج من الأوعية بقوة، أرخى عضلاته وتموج، عيناه مفتوحتان تحدقان بنا كلنا، يسألنا لماذا أوصلتموني إلى هنا؟ كنت قبل قليل فوق خشبة المسرح ارقص واغني مع الأطفال، حياتي هناك كانت نابضة وحية، فمن الذي جعلها ميتة؟.
فوق صخرة الموت بكيت كثيرا، رأيت شابا بريئا يموت بائسا، لم يترك كلمة أو وصية، لم يخف من الموت، كان يرغب في الحياة بشدة، ولكن هناك من ألقاه من فوق الصخرة، قوى أخرى نراها ولا نراها، كان مقسوما إلى اثنين غارقا في عذاباته المتلاطمة.
عندما يموت شاب بهذه الطريقة فالقتلة عديدون كما هي الأسباب عديدة، القتلة غير مرئيين، لهم وجوه كثيرة، وهذا النوع من الموت يمر بسرعة ومواربة مع انه موت كبير وحقيقته كبيرة لا احد يغوص في البحث عنها، لن يكون هناك سلام دائم لا في قلوب الأفراد ولا في أخلاق المجتمع مالم يشفى الإنسان من هاجس الاقدام على الانتحار.
لا يكفي العزاء والمشاركة في الجنازة وإغلاق الملف، علينا ان نتطلع في كل الاتجاهات ونختبر هذا الوعي الذي تحول إلى صنم جنائزي قدري، فالموت ليس النهاية، انما النهاية ان نقبل على أنفسنا إسدال الستارة وقفل الباب وعدم جمع السكاكين والحبال من القتلة المخفيين وراء مظاهر اجتماعية وتجارية وثقافية وسياسية كثيرة.
يكتفي الناس بالقول انه انتحر إراديا، وهو تبرير ساذج لإخلاء المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية عن هذه المأساة، والواقع ان الذي انتحر أراد ان ينحر شيئا آخر في داخله أو حوله يوجعه، شيئا يخيفه أو يصده أو يمتهن كرامته وقيمته العليا كانسان، فالمنتحر يعرف انه سيموت، لكنه لم يعرف كيف سيعيش، لقد نقل عيشته من حكم الأرض إلى حكم السماء.
عندما اسمع ان شخصا قد انتحر اشعر ان هناك وحش يختفي داخل المدينة، وقد يكون هذا الوحش هو العادات والتقاليد البالية، وقد يكون نحن المقصرين اللامبالين المشاركين بطريقة أو بأخرى في ارتكاب الجريمة.
صحيح ان صراعنا الرئيسي هو مع الاحتلال الذي يريدنا شعبا منتحرا عدميا، ولكن هناك صراع آخر مع الأفكار والثقافة يتم بالحبل والساطور، فالانتحار يعني ان حياة الانسان تكف عن ان تكون مقدسة، لهذا علينا ان نعلن في المباديء والمؤسسات ان الشخص الانساني فوق الدولة والقبيلة، وان ثقافة الحياة اقوى من ثقافة الموت، وان كل تدبير يخفف ضغط القوى الاجتماعية على الفرد سيساعد على تقليل عدد المشنوقين والمشنوقات والمنتحرين الذين فقدوا الحماية والدعم ووصلوا الى قمة الصخرة.
الصيرفي وضع النهاية في البداية، كان له حياة قبل هذا الموت، حياة اقل من حياة، فمن يستجوب الصمت في هذا الوادي العميق، وهنا يكشف المنتحر عجز الحياة عن تفسير الموت الغامض فوق صخرة الباذان في نابلس، لا يوجد لائحة اتهام، لا شهود ولا حراك مجتمعي مدني يضع حدا لفظاعة الخاتمة.
ماذا قال الصيرفي من فوق السفح للهواء وللمدى
الكلمات التي صرخ بها رددها الصخرُ
لا زال في قلوبنا يتردد زلزالها
ورجع الصدى...
بقلم/ عيسى قراقع