اليسار الفلسطيني:وهج التاريخ وضبابية المستقبل

بقلم: سري سمور

تحدثنا في المقال السابق(لماذا تراجع اليسار الفلسطيني؟!) عن نقطتين فيما يخص أزمة اليسار الفلسطيني وهما عدم وجود مراجعة للأيدولوجيا، وتراجع العمل العسكري، واستكمالا لمسألة الأيديولوجيا، لا بد أن أشير إلى أن القوميين يحسبون فلسطينيا ضمنا على اليسار، وغير الباحثين من أهل الاختصاص لا يتعبون أنفسهم في البحث عن الفروقات، أو فرز من هو يساري قومي عن قومي غير يساري...إلخ، وذلك إجمالا لارتباط القوميين بالتيار اليساري تاريخيا، وإن اختلفا في أكثر من مسألة، ولأن اليساري كما القومي غالبا ما يستخدم مصطلحات متشابهة ومفاهيم معينة مثل(رجعية...تقدمية..اشتراكية) وأيضا لأن (ج.ش) انبثقت عن حركة القوميين العرب، وهي أكبر وأبرز فصيل يساري فلسطيني، والدولتان اللتان حكمهما حزب البعث العربي الاشتراكي أي سورية والعراق، نلحظ من اسم الحزب ارتباطا باليسار كما القومية، وهما كانتا قبلة القوميين واليساريين العرب، باستقطاب حاد سببه القطيعة بين الأسد وصدام.

 

ثالثا:قراءة رغبوية للحالة الروسية..وتأييد الولي الفقيه

 

ومن التعبيرات المشهورة فقهيا(ليّ أعناق النصوص) في إشارة لمن يحوّر النصوص ويحاول تكييفها وفق هواه أو رغبته أو رؤيته، وفي قراءة وتحليل اليسار الرغبوي نجد أن هناك حالة من(ليّ تفسير الحقائق والوقائع) لدوافع حنين إلى الماضي ربما ؛ فاليساريون مثلا-بلسان الحال لا بلسان المقال- يرون أن الصليب المعلق في رقبة (فلاديمير بوتين) هو مطرقة ومنجل، ويغضون الطرف عن مباركة القس الروسي الأرثوذوكسي لعمليات الجيش الروسي، وأن روسيا بقيادة (أبو علي بوتين) هي أرثوذكسية-رأسمالية وليست ماركسية لينينية اشتراكية.

ويتغاضون أو  يتجاهلون استعداد الروس للتواصل مع حركة حماس، على ما تحمله من أيديولوجيا، بتفضيل-بحكم واقع وحجم وقوة التأثير- واضح عن كافة حركات وفصائل اليسار، الذي يرى أن الصعود الروسي وتدخلاته في ملفات إقليمية ودولية، وارتفاع نبرة التحدي ضد الأمريكان، منذ بضع سنين، بعد فترة من التقوقع على الذات، بل حتى التحوّل إلى صدى للأمريكان، كما في فترة بوريس يلتسين، يراه اليسار –توهما أو مكابرة- عودة إلى البلشفية، ويبني على ذلك قراءة سياسية للواقع الدولي والإقليمي تحاول إلباس الروس ثوبا هم لم يعلنوا بالمناسبة أنهم سيلبسونه، بل إن الاتحاد السوفياتي كان قد قطع علاقاته مع الكيان العبري بعد نكبة 1967 بينما ينسق الروس مع الكيان فيما يخص الوضع في سورية، ولا يظهرون ما كان السوفيات يظهرونه من لعب دور الحليف الاستراتيجي والصديق للشعوب المضطهدة والثورات وغير ذلك!

وإذا لم تجد هذا في الخطاب الرسمي لليسار فيمكنك تلمسه بجولة سريعة لحوارات بعض مثقفيه ونشطائه، ما يكتبون ويعلقون وما يتحدثون به في غير منبر إعلامي أو إلكتروني.

ومن المفارقات أنه مثلما لم يسارع اليسار إلى إجراء مراجعات صريحة وجريئة بعيد الحرب الباردة وتفكك المنظومة الاشتراكية السوفياتية، لسبب أو لآخر، فإن هذا (الصعود) وهذه الأجواء التي توحي بعودة الحرب الباردة،  على ما يبدو، تغري اليسار بالاستمرار  في عدم مراجعة حقيقية لما مضى من فكر وشعارات وقناعات.

ومن الغرائب المعاصرة، أن اليسار الذي قامت تنظيراته على نوع من (العلمنة الصارمة) ورفض أي دور حقيقي للمؤسسات الدينية ورجالها، يغازل ويدافع بقوة، بل بعض مثقفيه صاروا إلى حالة من التعصب في تأييد حاد لإيران؛ وإيران دولة تقوم على ولاية الفقيه أي المرجعية الدينية الشاملة، واليسار العربي لطالما انتقد دور (رجال الدين) وحتى غمز ولمز من قناة بعض المؤسسات كالأزهر، إضافة إلى انتقاداته الحادة للسعودية بسبب اعتناقه مبدأ ضرورة تهميش وتحجيم دور المؤسسة الدينية، كشرط وضرورة للمسيرة(التقدمية)!

وحقيقة لا يوجد أي دولة في العالم العربي والإسلامي، ولا أي جسم وكتلة سياسية، تقوم على أساس المرجعية الدينية ممثلة بالفقيه سوى إيران، التي ومنذ بضع سنين انبرى اليسار للدفاع عنها مما جعل الأمر مفرط في (السوريالية)؛ فطبيعي ومفهوم صداقة وتحالف على أعلى مستوى بين إيران وحماس والجهاد الإسلامي وحتى فتح، فالقوم على الأقل لم يبنوا أفكارهم ولم يقدموا أنفسهم كحالة مضادة للمرجعيات الدينية.

ومن درس في الجامعات الفلسطينية يتذكر كيف أن اليسار كان يعتبر الدعوة إلى ارتداء الحجاب نوعا من كبت ومصادرة الحريات وممارسة الوصاية؛ وهو الآن منافح قوي عن الدولة التي من أبرز معالمها التشادور للنساء ويحكمها فقهاء شيعة معممون!

ومهما برر اليسار هذا التوجه بالدفاع عن(محور المقاومة والممانعة) أو التصدي لما يعتبره هجمة إمبريالية بقيادة أمريكا وإسرائيل، فإن الشارع الفلسطيني لا و لم ولن يتقبل هذه التبريرات في ظل الظروف غير الطبيعية التي نقل فيها اليسار خنادق دفاعاته وقلب جوهر تنظيراته...وبالتأكيد كانت مصداقية اليسار ستكون أكبر لو فعل هذا قبل زمن...فالمراجعة ضرورة وليست ترفا.

 

رابعا:الأزمة المالية والتمويل

 

ما بين الفينة والأخرى تشتكي(ج.ش) وترفع صوتها بأنها تتعرض إلى مضايقات أو تقليصات لمخصصاتها من (م.ت.ف) بسبب مواقف سياسية معينة، وهذا يفتح مشكلة رئيسة من مشكلات اليسار وهي الأزمة المالية؛ فحتى بدون هذه التقليصات فإن أزمة اليسار تعود إلى مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وما تلاها من توقف دعم بعض الدول العربية، وبالطبع الأجنبية لأنشطة اليسار.

وقد تحوّلت قطاعات من اليسار إلى العمل الأهلي المموّل، وصارت تحرص على صياغة(البروبوسال) وفق ما يقبله هذا الممول والذي هو دول أوروبية لها أجنداتها وشروط تمويلها، فصارت تلك القطاعات اليسارية حالة من (الأنجزة) الضخمة التي اجتاحت الأراضي الفلسطينية المحتلة سنة 67 بل صارت بعض تمظهرات الأنجزة مصبوغة بنشطاء اليسار، وهو أمر يتناقض مع تاريخهم وطرحهم الثوري، الذي استقطب سابقا عددا كبيرا من الشباب، والذي يعيب على الآخرين قبولهم دعما من قوى أو دول (رجعية)، وقد كُتبت مقالات تناولت بتذمر وانتقاد لهذه الظاهرة من باحثين وكتبة بعضهم محسوب بطريقة أو بأخرى على اليسار.

ولم يستطع اليسار إيجاد قنوات تمويل تحفظ له شيئا من المرونة، وتعدد الخيارات، ولعلنا نلاحظ مثلا غياب اليسار اللافت عن أنشطة وتحركات هي في صلب التنظير اليساري، وميدانه الذي ظل يصول ويجول فيه ردحا من الزمن، كموضوع قانون الضمان الاجتماعي مؤخرا.

فقبول التمويل الأوروبي حتى لمشروعات تخدم المواطنين، له أثمان سياسية باهظة، وهو يقيد المسار الثوري الذي كان اليسار يقول أنه يتبناه وينتهجه ويدعو الشعب الفلسطيني للسير فيه.

كما أن مصادر التمويل المكشوفة سواء مخصصات م.ت.ف أو ما يقدمه المانح الأوروبي، لا يمكن استخدامها لأغراض العمل العسكري، وكما قلت في المقال السابق بأن العمل العسكري شيء مركزي لاستمرارية وشعبية أي فصيل على الساحة الفلسطينية.

وهنا ثمة سؤال بدهي:ألا تعاني كل القوى والفصائل الفلسطينية أزمات مالية، ولا يقتصر الحال على اليسار فقط؟صحيح، وهذا أمر له تأثيراته السلبية فعلا، ولكن الفصائل والقوى الأخرى ربما لديها خيارات أوسع قليلا، أو لنقل ضيقة باتساع مقارنة مع حال اليسار، والذي –للمفارقة-قد يكون حاله من حيث الوفرة المالية نوعا ما أفضل من غيره، ولكنه يواجه أزمة مالية في ذات الوقت، لوجود القيود والاشتراطات وعدم توفر البدائل!

في المقال القادم إن شاء الله سأتحدث عن نقاط ومحاور أخرى تخص اليسار وفقدانه القدرة على منافسة القطبين.

 بقلم:سري سمّور