محمد عادل المقيم في سورية ، وعضو الأمانة العامة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين في الخارج ، هو كاتب سياسي فلسطيني ، وقصصي بارع ، عرفناه على امتداد حياته بمواقفه الوطنية الفلسطينية الجذرية المبدئية ، التي لا تقبل المساومة ، والتزامه حتى النخاع بقضايا شعبه الفلسطيني المكافح المقاتل والمقاوم في سبيل حريته واستقلاله ، والتصاقه بالقضايا والهموم الإنسانية العامة .
شق دربه الأدبي متمكنًا من ادواته الفنية الابداعية وتنوع أساليبه السردية وموضوعاته . وهو ليس كاتبًا مبدعًا فحسب ـ وإنما مناضل ثوري جاءت كتاباته مرتبطة عضويًا بفلسطين/ الواقع والحلم ، وبالقضية الوطنية المقدسة التي أعطى لها عمره ، منافحًا عنها بالكلمة المقاتلة الملتزمة الثورية .
وهو يتمتع بذاكرة قوية حية ، وعن ذلك يقول الأديب الفلسطيني مراد السوداني : " ومن يعرف المناضل والمبدع محمد عادل يدرك تفاصيل البلاد بحميميةٍ ودفء طالما جهر بها العم ابو عادل كما يطيب لي مناداته .. فهو يمتلك ذاكرةً مدخّرة بمرويات ومشاهدات وفعال تستحق الانتباه والتأريخ والتثبيت ، كيف لا، وهو الذي حاس في المنافي وتجرع ناغرية الغربة ولمّا يزل. ولكنّه ظل على عهد فلسطين .. صنو صديقه الاقرب الشاعر الفارس خالد ابو خالد .. فكلُّ منهما يكمل سيرة الاخر .. وفي ذلك قول كثير وارف. ربتما هذه عتبة واجبة للدخول الى قصة ابي عادل ومروياته الوسيعة ".
صدر له مجموعتان قصصيتان هما : " إلى متى تحلق فوق الحدود " و " مفاتيح على شبابيك القلوب " .اضافة إلى كتابيه " أحمد الشقيري : حارس للقضية في حضوره وغيابه " ، و " النفط العربي والاستراتيجية الأمريكية ".
محمد عادل في كتاباته القصصية يرسم الوطن وجراحه وعذاباته ، ويصور الحنين الفلسطيني لمدن الوطن وترابه ، وشوقه لعناق حيفا ، ويجسد معاناة ال
الإنسان الفلسطيني في مخيمات البؤس والشقاء والجوع والتشرد . وإننا نحس في قصصه ونصوصه النثرية بنغمات الحزن ومكابدة الألم والوجع الفلسطيني والإنساني .
وتنهض قصصه في مجموعته " مفاتيح على شبابيك القلوب " الصادرة عن الهيئة العامة السورية للكتاب العام 2017 ، على التاريخ الوطني الفلسطيني والبطولات الفلسطينية النادرة ، والمواقف الثورية النضالية ، والحياة والعلاقات الاجتماعية الحميمة ، وعلى الوجع الفلسطيني والمقاومة الباسلة في مواجهة الاحتلال والمشاريع التآمرية الصهيونية الامبريالية الاستعمارية والرجعية ، التي تستهدف القضية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية .
إنها حكايات وسرديات الذكريات والشوق والحنين النوستولوجي الفلسطيني ، وثنائية الوطن / الحلم .
ومن نافلة القول ، أن كتابات محمد عادل القصصية علاوة على فنيتها المذهلة ، وحبكتها المتينة ، وسردها المبهر ، ولغتها الرشيقة الجذلى ، فإنها تعكس ، وبحق ، من حيث توفر الشروط الفنية والموضوعية ، موقف الكاتب والمثقف الفلسطيني الرافض للهزيمة والاستسلام ، والواعي لكل ضروب العهر السياسي الذي يستزف دماء شعبنا في هذه المرحلة العصيبة الحرجة .
وعدا الوعي النافذ والرؤية الواضحة لأبعاد المخطط والمأزق الجحيمي لأبناء شعبنا الفلسطيني ، فما يسم محمد عادل هو ارتباطه بالمكان الفلسطيني وابراز صورة المخيم بشكل واضح ، ورؤيته المتفائلة ، رغم مرارة وقتامة الواقع وبؤس المرحلة ، وهذا ما يتصف به الكاتب الثوري .
محمد عادل صديقي السابح بعكس التيار ، أنت على العهد باق ، مميز باستقامتك وشرف الكلمة ، وبالصدق الفني السردي والقصصي والحياتي ، نصوصك وابداعاتك تعكس صورة حقيقية عن حياتك ومواقفك المبدئية . أنت وكتاباتك سيان ، وهي صفة لا يتحلى بها كثيرون ، بل قلة قليلة ، خاصة في هذه الأيام التي تخلى فيها الكثير من " المثقفين " و " المبدعين " عن رسالتهم الثورية وغيرّوا مواقفهم الفكرية كالحرباء .
فلك مني صديقي واخي الكاتب الشامخ المسكون بفلسطينيته ، محمد عادل ، تحياتي ومحبتي وتقديري ليراعك وفكرك السياسي الوطني الثوري الراقي الراسخ ، واليكم أيها القراء هذا النموذج من قصصه بغية الاطلاع والقراءة .
وديني على حيفا !
بعد أن أدّت صلاة الفجر وكعادتها منذ ما يزيد على خمسين عاما، واصلت تلاوة الدعوات وأولها أن تعود للدار التي ولدت وتربت فيها، ورأت الأيام الطيبه الأولى من عمرها في حيفا.
نظرت إلى خارج الغرفة، السماء ملبدة بالغيوم ..وصوت الريح مازال يصل إليها عبر الشقوق في بيتها المتهاوي في المخيم ...لكنها أصرت على الخروج في هذه الساعة وفي هذا الجو البارد والعاصف دون أن تخبر أحدا… إلى أين هي ذاهبة...؟! ماذا تفعلين يا جدتي سألتها الطفلة الصغيرة، وين رايحة؟! أجابتها بعد أن أحكمت ربط الصرة الصغيرة: إلى حيفا يا جدتي. غادرت الطفلة الغرفة دون أن تستفسر من جدتها، ولكنها سألت أمها: وين حيفا يا أمي ... جدتي رايحة عليها ... أروح معها يما؟
نهضت زكية بسرعة سألت أمها: على وين يا مسهّل، وين رايحة يما؟ أجابت العجوز بكل هدوء وثقة: على حيفا على دارنا، امبارح كنت هناك..طول الليل وأنا هناك..خبزت وأكلت خبز الطابون الساخن، من خمسين سنة ما أكلت ...امبارح... بس، اليوم راجعة إن شا الله.
خرجت من الباب نادت عليها ابنتها ...انتظري... لحظة... انتظري! أم عمر تمشي بثقة وهدوء حاملة صرتها، تنادي على بعض المارة الذين يعرفونها ... خير انشا الله وين يا أم عمر؟ على حيفا يا خيتا. نظر البعض بدهشة والبعض الآخر بتجاهل واستغراب، والبعض يسأل ...شو يا أم عمر: حيفا صحيح قريبة ... لكنها بعيدة وكيف بدك تسافري لها ..أسلاك حواجز.. بعدين لك خمسين سنة طالعة ..شو هالحكي... وتمضي أم عمر في الأزقة الضيقة لا تثنيها لسعات البرد عن عزمها، فشحنتها العارمة من الشوق والحنين أنستها البرد والمطر والجو العاصف.
أبو زكي يقف إلى جانب سيارته المرسيدس القديمة التي يعرفها كل أهل المخيم ...منذ أكثر من أربعين عاما ...توجهت أم عمر إليه ... يسعد صباحك خيتا … الله يرضي عليك ... أجابها: يا مرحبا .. وين بدك أنا جاهز يا أمّ عمر .. حلّت البركة، أنت نوارة المخيم ...كل مخيم البداوي يحلف بحياتك ياغالية!
فاض الشوق والحنين بأم عمر وقالت له: وديني لحيفا يا أبو زكي .. قال بتعجّب واستغراب: وين بدك! على حيفا وينك ووين حيفا ... شو أنت مجنونة يا حرمة!؟ ردت بسرعة: لقد فاض بي الشوق والحنين وتفجرت فيّ كل ينابيع الحب والذكريات يا أبو زكي..أنا بدي أروح إلى حيفا ...أنت المجنون مو أنا ...هناك في حيفا كنتُ مثل الوردة التي يفوح عطرها على أرض الدار ...كيف تتجرأ وتقول لي فقدت عقلك! ... شايف هالصرة المربوطة ما زالت على ربطتها منذ أن رحلنا من حيفا ...شم رائحة التراب ما زالت فيها ... معطرة ظلت كما هي لم تتبدل ...يا الله كم أنا مشتاقة أن أطير وأحط وأشوف كل ما تبقى من أهلي الذين لم يغادروا أرض فلسطين!
تجمعت بعض النسوة ممن يعرفن أم عمر ...حاولن إقناعها بالعودة إلى البيت ... قالت نعم أنا جاهزة ... وكانت تقصد بيتها ودارها في حيفا حيث الدار الواسعة والشجر المثمر والريحان والطابون ... أما هنا في هذا المخيم فالغرفة لا تكاد تأوي زوجها المقعد وأولادها الذين يذهبون للعمل في الصباح ويعودون مساء ... متعبين مرهقين ... مهدودي الحيل !
لن أعود إلا إلى بيتي...مين رايح لحيفا يا أولاد...ليأخذني معه...أطفال المخيم يعرفون أم عمر جيدا..ويحترمونها وكثيرا ما يمرون أمام بيتها يلقون عليها تحية الصباح وهي لا تنسى أن تقدم لهم بعض الفطائر في المناسبات وتحكي لهم حكايات عن الدار والطابون ...والبحر وبيوت حيفا الجميلة ...نظروا إليها بحزن شديد ...أحدهم قال لها بعيدة حيفا يا خالتي ... أنا لو أعرف أسوق سيارة لكان أوصلتك لهناك وما بدك الانتظار الطويل !
حسن الذي كان يتابع ما تقوم به أم عمر ...منذ أسابيع عديدة يسمع نداءها للعودة لم يتمكن من الصبر طويلا ...لقد شعر بانكسار كبير أمام هذا المشهد ...إنه يعرفها ويحترمها ..إنها السيدة الفاضلة المؤمنة ...والتي يشهد لها الجميع بدورها في الدفاع عن المخيم ...والدفاع عن الفقراء ...والتصدي لكل من يحاول تهميش المخيم وزيادة فقره وحرمانه!
اقترب حسن من أم عمر وطيب خاطرها ...أخذ الصرة منها ووضعها في السيارة ...قال لها سآخذك إلى أي مكان إلى حيفا ومن هناك نرى ماذا نفعل ...شهقت أم عمر من الفرحة وزغردت. قبّلت حسن .. عادت إليها الروح … شعرت وكأنّها تنبعث من جديد, قال لها حسن ...بعد أن تحرر الجنوب من الاحتلال الصهيوني ...هناك على الحدود يأتي أهلنا ليشاركوا أبناء الجنوب ولبنان فرحتهم بالنصر وتحرير الجنوب...
تحركت السيارة باتجاه الجنوب ...لم يتوقف حسن عن الحديث عن الشوق للعودة إلى فلسطين ... أنت يا أم عمر تعرفين القرى والأحياء ... والسيارات والطرقات وينابيع الماء والعتابا والميجنا ..إنك تحملين فلسطين معك وفلسطين تحملك إليها كل يوم, بضع ساعات كانت أم عمر على الحدود ...يا إلهي أشارت بيدها...فلسطين ...أشتم رائحة غصن الليمون والذكريات ...أكيد حيفا على بعد خطوات ...كيلو مترات الأسلاك الشائكة على الحدود لم تمنع أم عمر من محاولة الزحف إلى العالم الآخر ..إلى الجنة كما قالت ...إلى التراب الذي يضم ما بقي من رفات أهلي في حيفا ..اقتربت .. نهرها الجندي الإسرائيلي ...ردت عليه بصوت عال ...ولك مين أنت هذه بلادنا أرضنا ...تحركت عدة أمتار كان الكلّ من أبناء قرى وبلدات فلسطين من المناطق المحتلة شمال فلسطين ...يقفون وراء الأسلاك الشائكة ...هذا يبحث عن أب عن أم, عن أخ, عن قريب, عن صديق, وأم عمر تتفرّس الوجوه علّها تجد من تعرفه ...صوت ينادي من خلف الأسلاك الشائكة العريضة ...يا حاجة عايشة..أم عمر ...أنا هون...تلتفت أم عمر … هذا الصوت ينادي اسمها .. هي ... سألت حسن: هل تسمع ما أسمع؟ قال: نعم ...ولكن من أين يأتي الصوت, هناك الجميع ينادي على الجميع ...والكل يسأل، والذي يصل من الجانب اللبناني من المخيمات يسأل ...والذي يأتي من شمال فلسطين يسأل...وصيحات الانتصار تعلو من مقاتلي حزب الله ...وأبناء الجنوب يحيّون أبناء فلسطين نفس الوجوه خلف هذا الحد الدامي ...هذه كانت أرضاً واحدة وبلاداً واحدة ...شعب واحد قسّمه المستعمر ... لم تكن هناك حدود بل كان الجميع يعيشون في هذه البلاد منذ آلاف السنين
اقترب الصوت مجددا يا حاجة عائشة...يا أم عمر ...أنا أم دعاس بنت أخوك ...أنا اللي بقيت هناك وعرفتك ...من الصورة اللي طلعت على التلفزيون ...اخبروني وقالوا لي هذي أم عمر ...عرفتك من دون كل اللي هون ...مدت أم عمر يدها ...ومدت ابنة أخيها يدها التصقت بالأسلاك الشائكة ...التي غرزت في جسدها ...اقتربت أكثر فأكثر والأسلاك تنهش جسدها وهي تحاول الوصول ...أمسكت يد ابنة أخيها ...وابنة أخيها تردد: أنا لازم أبوس يدك يا عمة أدخلتها بين الأسلاك رغم احتجاج العدو الصهيوني ...بكت أم عمر وسالت الدموع, شو أخبار أهلك, الجيران, الأقارب ... وأخذت تقترب أكثر حتى وجدت نفسها مطوقة بالأسلاك من جميع الجهات مع ابنة أخيها ...وحضرت بعض السيدات من كبار السنّ ...وبدأن يسألن عن أقاربهن ...وأهلهن في المخيمات ...وأم عمر تسأل عن الحاجة صفية ...ويأتي الرد العمر إلك...والحاج مصطفى العمر إلك ...هذا ابنه مثل الحصان...تعال سلم على أم عمر ...يزحف يرفض أوامر الجندي يقبّل أم عمر ...تسأله: خذني معك إلى حيفا ...من زمن ما حدا قابل يوصلني لحيفا ... تواصل البكاء ما هذا العالم الظالم ...متر بيني وبينكم...ساعة أو أقل وأصل إلى حيفا ..والأوامر ...ممنوع ...ممنوع...ارجع ..والبنادق موجهة إلى صدورنا ...تواصل أم عمر زحفها بين الأسلاك يحاول حسن إيقافها ...الدماء تغطي يدها...يمسح حسن يدها ...أم عمر تمشي ...تنادي...يما ما أحلى هواء الجليل ...والساحل ...والجنوب ...وكل البلاد ....البلاد بلادنا..وتغني:
يا ظريف الطول وقف تقلك! رايح عالغربة وبلادك أحسن لك
طلقات من الجنود الصهاينة لإرهاب المواطنين الذين بدؤوا يتوافدون ...وصيحات الله أكبر ...صيحات النصر تشقّ العنان والكل يردد ...فلسطين ...وعيونهم الدامعة على الجبال على السهول ...على الشجر ...على رائحة الغصن الحبيب ... ونسمات الهواء الرائعة من هناك ...أم عمر توجه كلامها إلى جندي إسرائيلي ...إحنا أصحاب الأرض, أنت دخيل ومستعمر ...والله لو كل العالم معك ...ما راح تبقى … إلا يجي يوم وتروح … شوف أنت غريب ...صحيح القوة معكم آه ...والخونة معكم آه والغرب معكم آه ...لكن الزمن لن يكون معكم إلى الأبد...سيأتي يوم ...ونعود..هذه أرضنا ...دورنا ...بياراتنا ...حقولنا ..بحرنا...جبلنا ...أنتم يجب أن ترحلوا ...وجه الجندي البندقية ...أطلق عدة طلقات لإرهاب الجموع ...دوت طلقات من الجانبين...وأم عمر مازالت تحضن التراب ....والأهل والأقارب ...وتنادي من يأخذني إلى حيفا ...الساعة قاربت منتصف الليل ...والحشود تزداد ...وضاعت أم عمر بين الحشود القادمة من فلسطين والحشود القادمة من المخيمات ...والحشود القادمة من قرى وبلدات الجنوب ...والمدن اللبنانية
تذكّر حسن .. أنّ أم عمر لم تأكل منذ الصباح وربما قبل ذلك...من أين لها هذه القوة ؟ من أين لها هذا التوهج...أخذ يبحث عنها ...ووجدها جالسة على الأرض وفي أجمل لحظاتها ... مسرورة في حبور ...تعال يا حسن ...كل من أكل بلادنا ...احضروا لي خبز الطابون ...انظر هذه الفواكه, والخضرة والأكل ...أكلت أم عمر بنهم شديد ...ووضعت الباقي في الصرة ...سوف أطعم أولاد ابني ...وبناتي ...ليذوقوا من خيرات بلادهم. طلب حسن منها العودة إلى المخيم ...فالأوضاع متوتّرة وليست مطمئنة ...هناك بعض الجرحى ...وأنا أريد أن أعود بك سالمة لأهلك ...أنا هون مرتاحة ...اذهب لوحدك أنا لن أرجع معك ...روح الله معك
رغم حلول الظلام ...تنظر أم عمر إلى الأضواء القريبة والبعيدة ...وجالت بذكرياتها.. وأمانيها إلى فلسطين، وأخذت تتنفس بعمق لتأخذ أكبر كمية من الهواء العليل القادم من الوطن ...نسمات من الهواء, حامية تحمل معها سلامات وتحيات من تحبهم هناك خلف الأسلاك ...خلف الأضواء ....خلف الأشجار ...تابعت أم عمر الحديث مع من التقت بهم من فلسطين ...خبروني عن كل شي احكوا لي ...خمسون عاما ً ... هوت بيني وبينكم ماذا جرى...الأرض التي أحبها ...من يمشي عليها ...من أخذها من يحرسها ...عين الماء...الغنم...الجرار من يملؤها بالماء...وسؤال يجر سؤال ...وأهل الوطن لا يبخلون على أم عمر بالأجوبة ...والذكريات ...والشوق الذي يكبر كل يوم ...والشهداء الذين رووا بالدم أرض فلسطين
رأت أم عمر من خلف الأسلاك الشائكة ...هناك الوديان التي مرت بها والطيور التي تنام على أغصان الأشجار والدواب التي تنقل الماء وأخذت تغني :
يا من درى نرجع يوم ع الدار ؟
رأت أم عمر الجرار ...جرار الماء الفخارية التي لا مثيل لها وهي ترشح على الوجوه والمناديل ...وكذلك تذكرت كل من طلب منها شربة ماء على الطريق وهي تنزل الجرة وترفعها رغم ثقلها لكنها كانت تشعر بالسعادة وهي تقوم بذلك ....سقى الله تذكرت برودة وطعم الماء كأنها تشرب منه الآن ...ابتل ريقها الناشف وشعرت ببرودة الماء تنساب على الوجه والجسد ...تذكرت النبع الذي لم تره منذ أكثر من نصف قرن ...إنّها الان تشرب الماء وكأنها بالقرب من النبع البارد والنظيف ...وترى الحصى الأبيض يرقد فيه ...ترى الماء العذب البارد كأنه آت من الجنة ! عاد حسن إلى المخيم ...ولم تعد أم عمر ...سأله أهل المخيم عنها ...قال لهم: إنها تلتصق بالأرض التي أحبتها, بالناس والأهل الذين تبحث عنهم ...رفضت أن تعود معي ...أخبرتني إنها تحيا من جديد مع كل كلمة تسمعها من أهالي فلسطين ..
بعد أيام سأل أهل المخيم عن أم عمر ...عدة أسابيع ...بعد شهور لم يعثر أحد على أم عمر ...لم تظهر أم عمر في الشوارع ولا في الأزقـة ...ولا على شاطئ البحر ...من يدري أين ذهبت أم عمر ...البعض قال إنها مشت في ماء البحر...حتى اختفت ...البعض قال إنها جلست على حافة أحد الأنهار المتجهة إلى البحر ...وما زالت كلماتها ترن في المخيم من يأخذني إلى حيفا.
بقلم : شاكر فريد حسن